أوروبا في أزمة
حسين عبدالقادر المؤيد
قادت أوروبا نهضة كبرى كانت قد بدأتها منذ مطلع الألفية الثانية للميلاد، حيث شهدت تلك الفترة وتيرة تأسيس الجامعات، فتأسست جامعة بولونيا في إيطاليا سنة 1088، وهي أقدم جامعة بالمفهوم الحديث للتعليم العالي، حسبما نسب الى المؤرخين وفي بريطانيا برزت جامعة أوكسفورد التي بدأ التعليم فيها سنة 1096، ثم جامعة كامبريدج 1209 وفي فرنسا تأسست جامعة السوربون سنة 1253 وفي ألمانيا تأسست جامعة هايدلبرغ سنة 1386.
لم تكن تلكم الجامعات مجرد معاهد لتدريس العلوم، وإنما صارت مطابخ علمية لإنتاج نهضة كبرى قام بها فلاسفة ومفكرون وعلماء أوروبيون.
لقد أحدثت هذه النهضة تغييرات جوهرية في المجتمعات الأوروبية، على الصعيد الفلسفي والعلمي والفكري، وعالجت موضوعات تتصل بحياة الفرد والمجتمع في الصميم، الموقف من الدين والميتافيزيقيا، القيم والأخلاق، السياسة والإقتصاد، أنماط السلوك وحدوده.
إن ما اصطلح عليه بعصر التنوير، هو التجسيد الحقيقي للنهضة التي بدأت منذ مطلع الألفية الثانية ونمت وأخذت بالتألق، فكان عصر التنوير وكانت الثورة الصناعية واستمر خط الرقي بالتصاعد.
لقد حدثت تفاعلات مهمة أفضت الى ولادة أوروبا جديدة، منجزات علمية، نظام سياسي حديث، نظام اقتصادي متميز يتسع للتنوع في إطار إفرازات الثورة الصناعية، سلوك اجتماعي منضبط بقيم وقواعد أفرزها فكر النهضة وقد ترسخ ذلك بعد حربين عالميتين كادتا أن تجهزا على النهضة الأوروبية برمتها.
لا يعني كل ذلك- ونحن نتحدث عما حققته أوروبا لنفسها، بغض النظر عن علاقتها بغيرها من الدول والشعوب- تمجيد النهضة الأوروبية بعجرها وبجرها، فهي إنتاج بشري خاضع للخطأ، وقد حصلت ولا تزال تناقضات جدلية ومفارقات خارج أي منطق متسق، وإخفاقات على مستوى الفكر أو التطبيق وقد قام مفكرون أوروبيون بتسجيل ملاحظاتهم النقدية على الحداثة الأوروبية وإفرازاتها.
لكن هذا كله يجب ألا يمنع من النظر الموضوعي إلى الاستقرار الذي حققه النظام السياسي الغربي الحديث لأوروبا، ومستوى من العدالة الإجتماعية يوفر فرص العمل ويقدم الضمان الإجتماعي للعاطلين عنه ويقدم التأمين الصحي للجميع ويوفر فرص التعليم المجاني من دون تمييز، وعقد اجتماعي يضمن كافة الحقوق ويضبط سلوك المجتمع في إطار سيادة القانون، ونظام قضائي نزيه يضمن بسط العدل بين الناس، وحماية أمنية تتكفل بها الدولة عبر مؤسساتها المعنية بذلك.
أعتقد أن من أهم ما حافظ على أوروبا وليدة النهضة والتنوير، بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، هو نفوذ أحزاب الوسط واليسار المعتدل في الشارع الأوروبي، والتي كان لها دور كبير في الحيلولة دون تغلغل التطرف ونموه في المجتمعات الأوروبية.
لقد أدى نفوذ أحزاب الوسط واليسار المعتدل الى عقلنة المجتمع الأوروبي وعدم تمكين الشعبوية في المجتمع.
لا شك في أن تكريس الديمقراطية الحقيقية والعدالة الإجتماعية حتى في ظل نظام اقتصادي رأسمالي والحفاظ على العقد الاجتماعي وسيادة القانون وقيم حقوق الإنسان، كل ذلك في وعاء ثقافة متسقة معه تحكم عقلية الإنسان الأوروبي، كان بفضل نفوذ الوسط واليسار المعتدل في المجتمع الأوروبي، مضافا الى عوامل آخرى.
إن أوروبا اليوم تواجه أزمة حقيقية خطيرة، لو لم تبادر الى معالجتها فمن المحتمل جدا أن تفضي الى خلخلة الباء الذي قامت عليه أوروبا الحديثة وربما انهياره.
إن انحسار نفوذ الوسط واليسار المعتدل في الشرع الأوروبي، سيؤدي الى صعود اليمين غير المعتدل والذي سيخلق جدلية خطيرة على بناء أوروبا الحديثة.
لقد أفضى انهيار الاتحاد السوفييتي، وصعود اليمين غير المعتدل في الولايات المتحدة الأميركية، وإطلاق العنان لآيديولوجية صراع الثقافات والحضارات، ونمو الشعور الديني عموما في العالم والذي تزامن مع إطلاق حملة فوبيا ضد الإسلام- وهي حملة وإن كانت من زاوية موضوعية انعكاسا لموجة الصحوة الدينية التي طغت على المجتمعات المسلمة بشكل خرج عن الإنضباط وأدى الى بروز التطرف الذي أفرز الإرهاب، وامتدت آثار ذلك الى الغرب وحركت فيه هواجس كانت نائمة، إلا أن حملة الفوبيا هذه، قد انطوت على تهويل وغلو واستغلال، الى تنامي الاتجاهات والتيارات الفكرية والسياسية المتطرفة في المجتمع الأوروبي، وأدى كذلك الى التراخي في التمسك بالعلمانية في الغرب والتي هي الوعاء الثقافي للنهضة الحديثة في أوروبا والأساس الذي أشيدت عليه النهضة، ولقد أدى الى نمو تدريجي للشعبوية في المجتمع الغربي عموما.
أعتقد أن أوروبا الحديثة ستتجه الى حافة الانهيار، إذا ترك العنان للشعبوية التي ستكون بيئة خصبة لليمين غير المعتدل وما يفرزه ذلك من جدلية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، الأمر الذي سيوجه ضربة للثقافة التي قامت عليها أوروبا الحديثة وبالتالي سيوجه ضربة للتوازن الذي أنتجته تلكم الثقافة في المجتمع الأوروبي.
ومن هنا أدعو الى ما يلي:
1- تفعيل وتقوية الاتجاه الفلسفي النقدي الذي كانت مدرسة فرانكفورت رائدة في مضماره، والذي يركز على عقلنة موضوعية تضع حدا لتهور العقل الأداتي الذي كانت سيطرته على المجتمع وبالا أدى الى المعاناة من الفاشية والنازية وإخفاق الإشتراكية السوفيتية والى حدوث حربين عالميتين طحنتا أوروبا وكادتا أن تقضيا على مجمل البناء النهضوي الأوروبي.
إن مدرسة فرانكفورت وما شاكلها، يمكن أن تلعب دورا حيويا في وضع حد للشعبوية بكل أشكالها والحيلولة دون نموها في المجتمع الأوروبي.
2- تفعيل وترويج آيديلولوجية حوار الثقافات وتعايشها، والعمل على تشكيل محور عالمي للإعتدال يكون هو صاحب الكلمة على الساحة الدولية.
3- محاربة التطرف والإرهاب بكل أشكاله وانتماءاته، وأن يتم التركيز على معالجة مغذيات الإرهاب.
إن إبقاء الشرق الأوسط في حالة من عدم الإستقرار، ستكون له آثار جد سلبية على الغرب وسيؤدي بالمجتمع الأوروبي الى سيطرة الشعبوية واليمين المتطرف، وهذا يشكل خطرا على مستبقبل أوروبا الحديثة.
أعتقد أن أوروبا يجب أن تلعب دورا فاعلا في استقرار الشرق الأوسط والمساعدة على توطيد النموذج المدني والعدالة الاجتماعية في مجتمعات الشرق الأوسط والتخلص من نظام الملالي في إيران الذي يعتبر تحديا خطيرا للاستقرار والنموذج المدني في الشرق الأوسط بل في العالم وإنهاء سيطرة القوى المرتبطة بإيران كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، وكذلك يجب العمل ععلى إنجاح قيام ديمقراطية حقيقية في العراق عبر كف يد القوى الدينية والانتهازية التي سيطرت على مقاليد الأمور في العراق، واتاحة المجال لبروز قوى مدنية تؤمن بالنموذج الديمقراطي الحديث وتطبيقه في العراق تطبيقا حقيقيا، كذلك إيجاد حل عملي يؤمن حقوق الفلسطينيين ويضع حدا للصراع.
إن أوروبا أمام مسؤولية تاريخية على مكتسبات نهضتها التي أدت إلى ولادة أوروبا الحديثة، هي مسؤولية لا يملك قادة أوروبا من السياسيين والمفكرين تحدي التنصل منها وفي هذا السياق، أعتقد أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في هذا المقطع التاريخي، خطأ ستراتيجي لأن وجودها في الاتحاد الأوروبي يجعلها أقدر على الحفاظ على مكتسبات أوروبا الحديثة والتي كان لبريطانيا فيها سهم وافر.
مفكر وسياسي عراقي