اصحوا أيها الكبار قبل فوات الأوان … كم من ملكٍ رُفعت له علامات فلمّا علا مات
كتب ـ أحمد الجارالله:
حين تغيب الصراحة ويحضر التملق والمديح الكاذب، تسقط الدولة في الفوضى، فتختل الصلاحيات الموكلة إلى المسؤولين، ويسود التسيب فيصبح الفساد سيداً على الجميع، لذا صدق الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب حين قال: “لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نقبلها”، لأن المؤمن لا يزال طالباً للحق حريصاً عليه، ولا يمنعه من الأخذ به حيث لاح وجهه شيء، فكل من قال بالصواب أو تكلم بالحق قبل قوله وإن كان بعيداً بغيضاً.
من هذا المنطلق، جاءت قصة المسكين الذي شهد موكب أحد الملوك يوماً فناداه باسمه من دون تفخيم أو تعظيم فانقض عليه الحرس، وقالوا له: “كيف تخاطب الملك هكذا، فهل تنادي ابن عمتك أيها الصعلوك”؟
لكن الملك منعهم عنه وقال: “دعوا الرجل يتكلم”.
فقال: “هل غضبت لأنني ناديتك باسمك، وأنا أنادي مالك الملك باسمهِ، وأقول يا الله، فلا يغضب”؟
قال الملك: “اقترب مني وانصحني فلقد سئمت قصائد المادحين”، فقال المسكين: “أعلم أنهُ لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وانظر إلى الجهتين هذهِ قصورهم وهذهِ قبورهم”.
إن الدنيا إذا حَلّتْ أوحَلتْ، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وإذا أينعت نعت، وكم من قبورٍ تبنى وما تبنا، وكم من مريضٍ عدنا وما عُدنا، وكم من ملكٍ رُفعت لهُ علامات فلما علا مات”.
إن العبرة في النصحية هي المصلحة العامة والاطمئنان، وهنا لا بد من قول الحقيقة عارية من أي لبوس كي تكون في متناول أصحاب الشأن.
للمرة الأولى في تاريخ الكويت، ليس منذ الاستقلال، بل منذ 400 عام تشهد البلاد أزمة فراغ على المستويات كافة، فلا السلطة التنفيذية تعمل، ولا مجلس الأمة يمارس دوره، بينما الأصوات تتعالى من كل حدب وصوب مطالبة بالحسم، أما الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، وفقاً لما تطالب به الغالبية الشعبية التي أتت بالنواب الحاليين لكن أملها خاب من ممارساتهم، أو تكليف شخصية جديدة لتأليف حكومة فاعلة، وإنهاء حال الجمود التي تعانيها الكويت منذ نحو ثلاث سنوات.
لا شك أن وضعنا يختلف عن العراق ولبنان، حيث الفوضى السياسية تعطل المؤسسات الدستورية سنة أو سنتين، وليس لدينا تلك الأحزاب المتمسكة بتمثيل وهمي، طائفي أو عرقي، ولديها قوة أمر واقع تمارسها على أصحاب القرار، وبالتالي فإن حل الأزمة الحالية سهل جداً، ولا يحتاج إلا إلى قرار من أصحاب القرار.
لقد درجت العادة في الكويت أن أي أزمة لا تستمر أكثر من أيام، فحتى عام 1964 حين احتدمت الأزمة بين الحكومة ومجلس الأمة، وكانت الديمقراطية لا تزال وليدة في ذلك الوقت، سارع المغفور له الشيخ عبدالله السالم إلى حلها في غضون أيام، وأقال الحكومة وأتى بأخرى أكثر قدرة من الأولى على ممارسة دورها، وكذلك الأمر في عامي 1976 و1986، وحتى في الغزو لم يكن هناك فراغ في القرار، رغم أن الحكومة والمؤسسات الدستورية كافة كانت في المنفى، وكان دائما هناك قرار، والحاكم يواجه الناس ويطمئنهم، ويبدد مخاوفهم.
ما يجري حالياً يوحي بأن الكويت متروكة لمصيرها، فيما تكثر الشائعات التي تزيد من قلق المواطنين الذين لم يعودوا يعرفون مَن يصدقون، فهل يعود سمو الشيخ صباح الخالد رئيساً لمجلس الوزراء، وفي ذلك لا طبنا ولا غدا الشر، أو يحل المجلس ويعلق الدستور، وتعود معزوفة “ديوانيات الاثنين” التي تسبّبت في ثمانينات القرن الماضي بتعقيد الأزمة، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه حينها، أم يحل المجلس وتجرى الانتخابات المبكرة ويصبح الشعب هو المسؤول عن اختياراته؟
الوضع الحالي لا يبشر بخير أبداً، فكل المؤسسات لا تعمل لأن الشواغر في السلطة الإدارية تكتسح غالبية الوزارات، وكذلك المعاملات اليومية للمواطنين، حتى بات شعار “راجعنا باجر” لسان حال جميع المسؤولين، وكل هذا بات يؤثر سلبياً على الحركة الاقتصادية التي تنازع حالياً جراء التطورات الدولية والإقليمية، وتعطل سلاسل الإمداد، فإلى متى تستمر هذه الحال؟
لقد دفع عدم اتخاذ قرار إلى تخلي غالبية الصحف التي كانت تؤيد الحكومة عنها، لأنها لم تعد تستطيع مجاملة المسؤولين الذين لم يحركوا ساكناً، لأنهم يبدو إما هم أقل من المهمات التي أوكلت إليهم وغير أهل لمناصبهم، أو هم ممن لا ذمة لهم، لذلك يمارسون دورهم بنوع من العنجهية للتغطية على فشلهم، وذلك يعود سلبا على كل شيء في الدولة، ولهذا بتنا ننام على فضيحة مالية، ونستيقظ على أخرى أمنية، أو سياسية، ما جعل الكويت تصل إلى وضع مثير للقلق على كل المستويات.
لا شك أن القلق يولّد الغضب، ولأن كل صاحب حاجة أرعن، لا يمكن ترك الأمور على ما هي عليه دون قرار حازم، وهو أمر بيد الكبار الذين عليهم أن يصحوا قبل فوات الأوان، ويتداركوا الأمر، ويصمُّوا آذانهم عن قصائد المديح التي تدس السم في العسل.