البحث العلمي في التنمية المستدامة لـ “مجلس التعاون” الخليجي

0 280

د.حيدر بهبهاني

يشكل البحث العلمي أهم مرتكزات التنمية ومقومات نجاحها، وقدرتها على تحقيق الاستدامة واستجابتها للتحولات الحاصلة في المجتمع والمؤثرات الخارجية، لما تُكسبه التنمية من منهجيات في العمل ووضوح في الأداء، وابتكارية في الأدوات، وقوة في التشريعات، ودقة في التشخيص، والحدس في استشراف المستقبل.
غير أن الحديث عن البحث العلمي لدى الباحثين في منطقة الخليج العربي عادة ما يغلب عليه طابع التشاؤم مستندين في تناولهم ذلك، بجملة من المداخل التي لا يسع الدخول في تفاصيلها، ومن ذلك الموازنة المالية المخصصة له، مقارنة بالموازنات الكبيرة التي ترصد للبحث العلمي في ستراتيجيات الدول المتقدمة، علميا واقتصاديا، إضافة إلى القدر الذي يساهم به البحث العلمي في صناعة البدائل التنموية في مواجهة التحديات، كانخفاض أسعار النفط وغيره، والتي ما زال التعامل معها في إحصاءات دولنا يتم على استحياء، رغم وجود توجهات نحو تعميق قيمة البحث العلمي في الحياة وإدارة برامج التنمية، وإيجاد مؤسسات معنية بالبحث العلمي، وتفعيل دور الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في هذا الجانب، وما ارتبط بذلك من سياسة وطنية لنشر ثقافة البحث العلمي في المدارس والمؤسسات التعليمية على شكل مواد دراسية، أو مسابقات ومشاركات بحثية، تتناول قضايا مختلفة في التنمية.
ونحن في دول”مجلس التعاون” الخليجي نشهد هذا التحول النوعي في مؤسسات البحث العلمي، وتكوين أطر تنظيمية وشراكات بحثية، محلية وعالمية، وسياسات تنافسية في تعزيز البحث العلمي القائم على الابتكار والتجريب في المجالات الستراتيجية، كالنفط والغاز والطاقة والثروات الطبيعية، والطاقتين النظيفة والنووية، والعلوم والبيئات الحيوية والدواء وغيرها، إذ شكلت منظومة بحثية مشتركة بين جامعات دول المجلس بهدف دعم المشاريع البحثية ذات الاهتمام المشترك، سعيا لتدعيم دور البحث في تحقيق التنمية المستدامة لدول المنطقة في إطار عمل مدروس لتوجيه البحوث الستراتيجية نحو التنمية المستدامة.
ومع القناعة بمحدودية الدور الذي تؤديه هذه الجهود في عمق ارتباطها بستراتيجيات التنمية في الوقت الحالي، إلا أنها وبالاستمرار في نشر ثقافة البحث العلمي، وبناء أطر ستراتيجية واضحة له، وقدرة القطاع الخاص على الاستثمار الفاعل في نتائج البحوث، وبناء أطر تشريعية حول الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وغيرها، من منطلق إيجابي، يمهد لربط نتائج البحوث الستراتيجية بأولويات القطاعات، والتوازن في تناول احتياجات القطاعات العلمية كالطب والهندسة، وقطاعات العلوم الإنسانية الأخرى.
وبالتالي تبقى المسألة مرهونة بمستوى القناعة المتولدة بالبحث العلمي كقيمة مضافة للتحول في ثقافة العمل والإنتاج.
إن قراءة التكامل بين البحث العلمي واستدامة التنمية، يرتبط بالأدوار التي يؤديها في نقل أدواتها وآليات عملها إلى مستوى الابتكارية، من خلال الدور الضبطي القائم على تعميق الجانب التشريعي في ضبط مسارات التنمية بما يحفظها من الخلل ويقيها من الخطأ، ويوجه جهود المؤسسات نحو بلوغ هدف التنمية، نظرا لما يؤديه البحث العلمي من تشخيص دقيق للحالة وقراءة واعية لها، ودراسة المعطيات والمؤثرات، وبالتالي وضع اليد على موطن القلق وتصحيح القصور في ممارسات التنمية؛ والدور الاثرائي التطويري القائم على تعزيز نمو البدائل وتعدد سيناريوهات العمل، في القطاعات التي يبرز البحث قيمتها وأثرها المحوري لتعزيز التنمية.
هذا الأمر يؤكد الحاجة إلى التحول بالبحث العلمي إلى مرحلة التطبيقات العملية والممارسات الواعية والمبادرات الجادة، عبر تعميق دور مراكز البحوث والجامعات بدول المنظومة الخليجية، وإيجاد حاضنات للبحث التطبيقي والابتكار، بما يسهم في بناء منظومة قائمة على التنوع في المنتج البحثي، وتناول بحوث العمليات والسوق والجودة، والبحوث التجريبية، ودراسات الحالة والبحوث التي تحمل صبغة الاختراع والاكتشاف وتصحيح المنتج، وتأكيد ذلك في بحوث الماجستير والدكتوراه، وترقيات أساتذة الكليات بالجامعات، والبحوث الشخصية المنفذة من قبل الباحثين المنشورة في الدوريات العلمية المحلية والعالمية، والانتقال بالبحوث الإنسانية إلى العمق في المنهجية والغوص في أعماق السلوك الاجتماعي المعزز للتنمية، خصوصا في قياس الاتجاهات ومسارات التفكير وغيرها، التي تسهم في منح التنمية فرص الاستدامة، بما يضمن لها النوعية والقدرة على المنافسة والحضور في فكر المستفيد.
هذا الأمر يرتبط أيضا بتعزيز دور البحث العلمي في صناعة القرار الوطني والمؤسسي، وتمكينه من رصد واقع التنمية واتجاهات التطوير بكل شفافية في ضوء ما يوفره من إحصاءات، ومؤشرات انجاز، ومقارنات ومعايير وتحليلات تبحث في أولويات الاستدامة، بما يتاح من فرص الحوار والنقاش والتفكير خارج الصندوق.
لذلك آن الأوان لتبنّي آلية وطنية تلزم المؤسسات وعلى مراحل، بأن تضع منهجية البحث العلمي إطارا لعملها، وطريقها لبناء منظومة الأداء، في ظل أدوات وطنية يمكن قياسها وتقييمها والتأثير الذي يحدثه في القرار المؤسسي، واستفادة المؤسسات من الجهود البحثية في تطوير أدائها وتجويد ممارساتها، بحيث يسير البحث العلمي في اتجاهين رئيسيين، فمن جهة يمارس دوره الابتكاري التنموي، ومن جهة يعزز من منحى التطوير الإداري ويؤصل لثقافة العمل المؤسسي.

مساعد نائب مدير جامعة الكويت للأبحاث

You might also like