الحلم الاقتصادي وداعاً؟ (1 من 2)

0 374

د. لويس حبيقة

نمر في لبنان في ظروف صعبة ليس فقط اقتصاديا، انما في كل المجالات الاجتماعية والسياسية، والصراعات الحالية الحادة تعمق المشكلات وتضعف الدولة.
كنا نعيش في حلم طويل تضمنه واقع سعيد لفترات غير قصيرة، حققنا فيه الانجازات والنمو، وتميزنا فيه عن معظم الدول، وعرفنا أيضا وقائع صعبة ومؤلمة حققنا فيها خسائر كبيرة في الأشخاص والمادة كما في الطموح والمعنويات.
مررنا في فترات كان مستوى المعيشة فيها مرتفعا نتيجة الاستثمارات الكبيرة في كل القطاعات وبخاصة السياحة، وأهملنا الصناعة والزراعة ليس فقط لأن السياسات العامة لم تكن بالمستوى المطلوب، انما لأن اللبناني عمليا وفي عقليته وتاريخه يفضل القطاعات ذات الربح الاسرع، وهنا تتألق الخدمات.
في الظروف الاقليمية الهادئة قبل 1975، حلق اقتصاد لبنان الى مستويات عالية فجذب المواطنين العرب اليه، ولا بد من التمييز بين حقبات تغيرت خلالها الأوضاع كما النتائج. من الصعب ربما ايجاد دول عرفت كل هذا التغيير خلال حقبات زمنية قصيرة. الاقتصاد اللبناني صغير ويتعرض لكل أنواع التأثيرات، وبالتالي ترتفع المخاطر أحيانا، ولا بد من وصف الاقتصاد اللبناني خلال فترات خمس انتقل بينها من ظروف مميزة الى أخرى صعبة وبالعكس:
أولا: فترة قبل 1975 حين كنا نسمي “سويسرا الشرق” عن جدارة واستحقاق. تميز لبنان باقتصاده المتطور المعتمد على الخدمات، وحلق بها بدأ من الجامعات الى المستشفيات والسياحة والمصارف والقضاء. وكانت الخدمات العامة ممتازة وكانت الليرة من العملات القوية مع سعر صرف متحرك.
ليست المشكلة في طبيعة أسعار الصرف، لكنها تكمن في الثقة بالاقتصاد والادارة والطبقة السياسية، وادارة لبنان كانت مضرب مثل لحسن الاداء وكان الفساد قليلا، وكان السياسي في خدمة الشعب يؤدي واجبه ويخضع للمحاسبة الدورية كل اربع سنوات، ولم نكن نفكر بتأجيل أي انتخابات، وكان الموعد طبيعيا، يطالب به الفائز والخاسر، وكان لبنان نموذجا للديمقراطيات الشفافة الفاعلة.
جذب الاستقرار الأثرياء العرب الذين أسسوا المصارف والشركات، وأصبحت بيروت فعلا العاصمة الاقتصادية والمالية للمنطقة.
جاءت أزمة “انترا” ذات الطابع السياسي الاقتصادي لتهز الأوضاع فشكلت ضربة قوية للثقة بنظامنا المصرفي، وكان الاقتصاد يعمل متكلا على القطاع الخاص ونشاط اللبناني وكانت الادارة تؤمن الأجواء الهادئة المناسبة للعمل والنمو.
ثانيا: فترة 1975 و 1990 حين دخلنا بسبب السياسة وسوء المعالجة في حرب مدمرة للاقتصاد والبشر مما سبب هجرة آلاف الادمغة والعمال والموظفين. لم تكن الأوضاع المعيشية سيئة بسبب الحدود المفتوحة، وبالتالي لا حسيب ولا رقيب، ولا جمارك، ولا ضرائب، وتم تبادل السلع بأرخص الأثمان.
عاش اللبناني في بعض البحبوحة رغم الأجواء السياسية والأمنية السوداء، وتأثرت كل القطاعات بالحرب التي استمرت مع تبدل هوية المتحاربين، وغابت الانتخابات لسنوات، وتأثرت كل المستويات العلمية لغياب الأشخاص كما لغياب الاستثمارات والأموال، وتدنت نوعية العيش وهاجر قسم كبير من الانتاج والابداع.
ثالثا: فترة 1990 – 2005 حين ساهم “اتفاق الطائف” بعودة بعض الحياة الطبيعية الى الدولة، ونما الاقتصاد بنسب مرتفعة بسبب الاستثمارات في البنية التحتية والعقارات، التي ترافقت مع رئاسة رفيق الحريري للحكومة، وعاد العديد من اللبنانيين الى ممارسة أعمالهم مطمئنين الى الأوضاع الجديدة، لكن لبنان كان قد تغير كثيرا ليس فقط في الديموغرافيا والنوعية، انما بسبب انتشار الفساد الذي ضرب عمليا كل أمل بالاصلاح الحقيقي.
ترابط فساد السياسة بفساد الاقتصاد عمق الأزمة وغيب الرقابة، في السياسة غاب القرار ليس فقط بسبب التدخل الخارجي، انما أيضا بسبب استفادة بعض اللبنانيين من الأوضاع القائمة فساهموا في ضرب الحياة الاقتصادية، ولم يعط لبنان الفرصة الحقيقية للعودة الى ظروف ما قبل 1975، فيما اغتيال الرئيس الحريري شكل صفعة كبيرة للبنان ورسالة قوية لنا بأن الأمور لم تستتب بعد.
يتبع

خبير اقتصادي لبناني

You might also like