الفراغ المقبل في النظام الدولي

0 285

أحمد غلوم بن علي

يلوح تساؤل في أفق هذه الأزمة العالمية: كيف سيكون النظام الدولي القائم، هل سيكون شبيها لما بعد الحرب العالمية الثانية، اي نظام دولي بثنائية قطبية، أم سيعيد التاريخ القريب نفسه، فيكون انبعاثا جديدا لأحادية القطبية العالمية كما كان بعد الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي، أم أن التساؤل بحد ذاته هو أمر مبالغ فيه؟
من يتتبع الإعلام، الغربي والاوروبي، هذه الأيام يجد حملة غير مسبوقة على الصين، كعدم شفافيتها في نقل واقع أرقام المصابين لديها، إلى العنصرية تجاه أصحاب البشرة السمراء، وأيضا إلى مجتمع ذي همجية وتخلف غذائي…،هذه الحملة والتقارير والبرامج، التي بدأت جميعها في الأسبوع نفسه، تشير بطريقة أو أخرى إلى أزمة عالمية في تلك الدول التي تشكل النظام الدولي( من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن) وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذه الأزمة لدى هذه الدول نابعة من عدم قدرتها على تعبئة أو ردم الفراغ الذي خلفته أزمة» كورونا» لدى العالم، ويقر بهذا الفراغ الكثير من المفكرين الغربيين أنفسهم، ففي» فرين أفيرز» بعددها لهذا الشهر يقول لويز ريتشاردسون:» ان أحد جوانب تثبيط جائحة فيروس» كورونا» الجديدة هو الغياب شبه التام للمؤسسات الدولية في تشكيل استجابة لهذه الأزمة العالمية. لم تتمكن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى من الاتفاق على بيان مشترك، ناهيك عن العمل المشترك، ولم توافق مجموعة العشرين إلا على أن المشكلة عالمية وخطيرة. كان مجلس الأمن صامتا، رغم مناشدات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس من أجل استجابة عالمية منسقة». هذا الفراغ الذي أنتجه النظام العالمي القائم هو فراغ مع سبق الإصرار والترصد فصحيفة» ذا نيشن» الأميركية، وفي ظل تقاذف الاتهامات بين الجمهوريين والديمقراطيين، نشرت خطة لوزارة الدفاع الأميركية لعام 2017 وتحذر فيها الإدارة الأمريكية من وباء مقبل وبوصف دقيق « التهديد الأكثر ترجيحاً مرضٌ تنفسي جديد (…) مرض إنفلونزا جديد»، وكان عنوان الخطة» جائحة الإنفلونزا والاستجابة للأمراض المعدية».
ليس التغاضي عن مثل هذا الوباء فقط ما سبب ويسبب هذا الفراغ، لكن أيضا تخلي أميركا (الطوعي) عن بعض المهمات، أخيرا أوقفت أميركا تمويلها لمنظمة الصحة العالمية، التي كانت لها الحصة الأكبر من المساهمة فيها، وانسحبت أيضا من» اتفاقية باريس» للمناخ 2017، واليونسكو، وتجميد أموال مساعداتها لوكالة الأونروا 2018. هذا الفراغ الذي هو بعبارة أخرى فشل الولايات المتحدة في قيادة العالم امتد أيضا لحلفائها لتسرق كمامات حلفائها، وتتسلح بقانون الإنتاج الدفاعي لتوطين منتجات أميركا الطبية من دون إعانة أيّ من حلفائها الذين مهدوا لها الطريق بعد الحرب العالمية الثانية، وظلوا مخلصين في حلفها الـ»ناتو».
هذا النظام الدولي الذي أنتجه اختلال موازين القوى بعد تراجع وانهيار الاتحاد السوفياتي لم يستطع البتة الحفاظ على التوازن الدولي، فمنذ ثلاثة عقود ازدادت الحروب والقلاقل في الدول( غير الحليفة) ووصل سباق التسلح إلى ذروة لم يصل إليها التاريخ البشري برمته، كما أنتج نظاما ماليا نيوليبرالي يعتاش على تراكم رأس المال في أيدي عدد قليل من سكان هذه المعمورة، واستفاد من هذا النظام المالي من ضرب أو إفلاس دول في أميركا اللاتينية وشرق آسيا، واستخدمها لتطبيق أفكار متطرفة النيوليبرالي، كخفض سكان العالم ليتلاءم مع الإنتاج العالمي للغذاء، كما فعل هنري كيسنجر في خطته (NSSM 200) التي وضعها عام 1970 كمستشار لمؤسسة» روكفيلر» ووقّعها الرئيس فورد عام 1975، حين تسلّم الأول وزارة الخارجية الأميركية، وصلب فلسفتها استخدام الغذاء سلاحاً بهدف خفض العدد السكاني، واضعاً 13 دولة هدفاً (منها بنغلاديش والهند ومصر ونيجيريا والبرازيل وكولومبيا…)، وحُفظت تحت عنوان سري جداً كما ذكرها الكاتب في صحيفة «الأخبار» اللبنانية اسماعيل سكرية. بعيدا عن الإسهاب في فشل (فراغ) النظام الدولي القائم، فإن الإجابة على سؤال مقدمة المقالة حول ما سيؤول إليه النظام الدولي بعد جائحة» كورونا» التي يعبر عنها نيكولاس بيرنز (أستاذ بكلية الحكومة بجامعة «هارفارد») بقوله في حديث الى مجلة» فرين بوليسي» ان:» جائحة» COVID-19» هي أكبر أزمة عالمية في هذا القرن، لجهة عمقها وحجمها الهائل. مهددة كل شخص على وجه الأرض»، أنها في الواقع ستسرع ما كان قد بدأ قبل هذه الجائحة، وهو تفكك للنظام الدولي القائم لدخول أقطاب فاعلة جديدة، ويعود هذه التسرع نحو نظام متعدد الأقطاب أمور اقتصادية عدة، أمنية، سياسية وجيوسياسية، بل حتى ثقافية.
بسرد سريع، اقتصاديا يعد تراكم الدين العام الاميركي والذي استدان تريليوني دولار جديدة في هذه الأزمة (فوق 22 تريليون)، تحديا من جهة تراجع أسعار النفط وعدم قدرة شركات النفط الصخري البيع بالسعر الحالي لكلفة الإنتاج، بالإضافة للتغييرات الاقتصادية المقبلة للشركات العابرة للقارات والتي ستركز في المرحلة المقبلة على المنتج المستقر (أي توطين المنتج) بدلا عن المنتج الرخيص والكثير، الذي كان يعتمد على أيدي عاملة رخيصة في دول عملتها أدنى من الدولار.
هذا التحول سيقلص تراكم رأس المال، وبالتالي تراجع النمو في الولايات المتحدة الأميركية، خصوصا مع وجود بديل( الصين) بأيدي عاملة مواطنة ووفرة إنتاج وتكلفة صغيرة، يضاف إلى ذلك تصاعد التكتلات الاقتصادية والأمنية الإقليمية كـ»منظمة شنغهاي» ومجموعة»بريكس».
إن هوة هذا الفراغ ستتسع مع اتساع رقعة وطول وقت هذه الجانحة، ويبدو أن الأقطاب الجدد يستغلون هذه الهوة بأفضل ما لديهم، في حين لا تزال دول عربية عدة مشغولة كليا في أزمتها ضد وباء»كوفيد-19»، ولا تدرك طبيعة المتغيرات المقبلة على المدى المتوسط.

كاتب كويتي

You might also like