الفوضى الخلاقة والشدة المستنصرية

0 132

د.نجلاء يس

الفوضى الخلاقة أو الفكر السياسي المحنك المحاك ببراعة بخيوط المكر والدهاء، الهادف لقلقلة البنية المجتمعية الدولية، بالعزف على أوتار الصراع العرقي والديني والطبقي، أو زعزعة الاستقرار الأمني والاقتصادي، أو بالترويج لنظرية المؤامرة بين الشعوب.
عادة ما يهدف منظروه إلى خلق حالة من اللاستقرار العقائدي، والفكري، والانتماء الوطني بالدول المستهدفة، يتم استغلالها لتحقيق مطامحهم المستترة الرامية للهيمنة على مقاليد السلطة، تحكمهم النزعة البراغماتية أو الذراعئية الانتهازية التي تنتهج مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” مسلكاً، لمن لا هوية له إلا نفعه الخاص.
وقد جسدها منذ القدم ما يعرف بالشدة المستنصرية أو الشدة العظمى، ذلك البلاء الذي أستشرى في مصر الفاطمية، وكان سبب من أسباب زوالها، أبان عصر الخليفة الفاطمي الثامن المستنصر بالله، والذي أوقد شرارتها الأولى رغبة والدة الخليفة (الجارية السودانية الأصل، السيدة رصد) في تقوية شوكتها وعشيرتها وإحكام سيطرتها على الحكم، يساعدها في ذلك الوزير أبو الفرج البابلي، وذلك عندما اوقعا بين طائفتي العسكر من العبيد والترك، مما أدى لنشوب حرب ضروس بين الجبهتين انتهت بحصار الترك للعبيد والقضاء على غالبيتهم.
وكان من تداعياتها اختلال عجلة القيادة في يد الخليفة، وتناقص حرمته، وتدني مهابته.
ادى ذلك الى دخول البلاد في فوضى سياسية أسفرت عن خروج معظم الأقاليم عن سلطان الخليفة، واستحلال المارقين لبيوت ماله، واختلاف كلمة العسكر وانقسامهم عليه ما بين موالٍ ومعارض، واشتداد تعاركهم نظراً لتعدد طوائفهم، وخواء خزانة الدولة جراء دفع جراياتهم، وانتشار الخوف، واشتداد الغلاء، وتندر الأقوات، واستفحال الفساد، ونقص منسوب مياه النيل، وتصحر الأراضي، ليتحول الأمر إلى مجاعة وصلت بالناس لأكل الجيف والميتات والكلاب والقطط والبغال، بل لأكل بعضهم بعضاً، فكانوا يقنصون المارة من فوق أسطح البيوت بواسطة الخطاطيف والكلاليب لتشريحهم وأكلهم.
وفقد المال قيمته، وبخست الجواهر ثمنها لعجزهما عن توفير رغيف الخبز الذي كان يباع كما تباع التحف، حيث وصل سعر البيضة الى عشرة قراريط، والعشرين رطل دقيق بدار، فبيعت حارة كاملة بطبق خبز، ليواجه الناس الخليفة برفع شعار “بيعت حبة القمح في عهدك يا مولانا بدينار”.
دارت الدوائر على المستنصر نفسه فتحول إلى معدم يقتات على طعام الصدقة، وتخرج نساءه من قصوره ناشرات شعورهن صائحات “الجوع… الجوع، الخبز… الخبز” حتى يتساقطن ويمتن جوعاً وهن في طريقهن للهرب الى العراق.
انقطعت الطرق براً وبحراً، واحرقت من الثياب والأمتعة والسروج والعماير والآلات ما لا يمكن وصفه لاستخلاص الذهب والفضة خوفاً عليها من النهب، ويباع كل غال ونفيس بما لا يعادل شيء من ثمنه، ويهلك من النسل والحرث ما لا يحصي عدده إلا خالقه.
حينها تفرق أهل البلاد وتشتتوا، لتأخذ الدولة في التداعي والسقوط، تتقاذفها الفتن تقاذف الأمواج العاتية بالسفينة الغارقة في اليم الهائج، وتقطع دعوة المستنصر في البلاد تمهيدا لإزالة دولة الفاطميين ومحو أثارها، وإقامة الدعوة العباسية محلها بديار مصر.
يومها استعان الخليفة بأمير الجيوش بدر الجمالي واليه بعكا لنجدته، والذي اشترط عليه أن يأتي بعسكره، والا يبقى أحد من عساكر مصر ولا وزرائها في مكانه، وتمت أجابته لذلك، فمكن له الله وأصلح على يديه أحوال البلاد، بوأد الفتنة وقطع دابر دعاة الثورة والطامعين وإخماد جمرتهم بإهلاك أكثرهم قتلاً، مما ساعد على استعادة النظام والأمن، وتنشيط الزراعة والتجارة، واسترجاع نفوذ الخليفة بمصر والشام وبيت المقدس ومكة وغيرها.
وانتهى الأمر بعد هدوء الأحوال إلى بسط الوزير بدر الجمالي (المملوك الأرمني الأصل) قبضته على كل مقاليد الحكم مهمشا خليفتها، ليبدأ عصراً جديدا يحكم فيه الوزراء أرباب السيوف والهمم خلفاء الدولة الضعفاء.
لا يسعنا في الختام ألا أن نتذكر قول الله سبحانه وتعالى “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ”، وقوله “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.

كاتبة مصرية
Naglaa_Yasseen@hotmail.com

You might also like