تجارب الحياة تهذب النفس مختصر مفيد
أحمد الدواس
كنت صغيراً لم أمرّ بتجارب الحياة، فقد نُقلت للعمل بالسفارة في الخرطوم سنة 1974، وعمري 24 سنة، ولم تكن هناك رحلات طيران مباشرة من الكويت، إنما عبر بيروت، فوصلت الى العاصمة اللبنانية ترانزيت، وأتذكر أنني هبطت فيها قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ولما وصلت الى الخرطوم في 31 أغسطس 1974، استقبلني زميل عمل على أرض المطار ثم دخلت مسكني.
صُدمت أن الكهرباء مقطوعة، بل تنقطع معظم ساعات النهار والليل، ولما تتوقف مولدات الحكومة عن العمل ينقطع وصول الماء للمنازل، كما لا يستطيع الناس تعبئة سياراتهم بالبنزين، ولا قراءة الصحيفتين الرسميتين “الأيام” و”الصحافة”، عذاب ومشقة تلو أخرى.
ومن صعوبة الحياة أنك لا تجد الخبز معظم الوقت، ولا توجد محال سندويش، ولا سوبر ماركت، وبالطبع لا مجمعات تجارية، كنا نتمنى أكل “النخي” أو “الباجلة” أو الفستق، لكن هيهات ان يتحقق هذا الحلم.
وإذا أنت امتلكت أسطوانة غاز للطبخ، فأنت تمتلك ثروة، ونحتفظ بالأرز والمكسرات التي جلبناها معنا من الكويت، فنستهلك منها مقداراً ضئيلا ليبقى عندنا نحو ستة أشهر، وكان هناك دكان صغير في منطقتنا السكنية حيث مقر السفارتين الكويتية والسعودية يبيع السردين والزيتون والجبن الأبيض، يتباهى بأنه “سوبر ماركت”!
مكثت ستة أشهر مستقلا سيارات الأجرة، فسافرت الى الكويت عبر القاهرة، ولما وصلت جهزت سيارتي لرحلة طويلة من الكويت عبر السعودية حتى أنقلها من جدة للخرطوم فقطعت الطريق في ثلاثة أيام، ثم طرت للخرطوم ودخلت صباحا مكتب السفير، الذي تعجب فقال: “غدا يوم وقفة ثم عطلة عيد، لماذا لم تمكث العيد مع عائلتك”؟
قلت شاكراً: “لقد وعدتك أسبوعا واحدا لجلب السيارة وهاأنذا قد عدت”.
كانت لنا إجازة سنوية فأزور فيها بلدي، وأجد كل خير ونعمة، وقبل العودة لمقر عملي أشتري صندوقا معدنيا أضع فيه ما أحتاجه من أرز، وفستق، وبسكوت وقطعة غيار لسيارتي، وأشحنه بالطائرة، وكانت العطلة فقط يوم الجمعة، وقد نعمل فيه حيث نذهب للمطار لاستقبال الوفد الرسمي الكويتي الزائر على متن طائرة الخطوط الجوية الكويتية، التي اختارت ان تهبط الخرطوم يوم الجمعة! أي كأننا عملنا يومياً من دون عطلة تقريباً مدة ست سنوات.
لقد عشت تجربة قاسية، فعند انقطاع الكهرباء، كنت أقرأ في مسكني على ضوء الشموع كتاب “الاقتصاد” للكاتب البارع سامولسن، ومجلة “نيوزويك” الأميركية رغم حرارة الطقس، فإذا ضاق بي الوضع ذهبت الى فندقٍ للقراءة، وهناك أجد نصف الفندق مضاء ونصفه الآخر في ظلام، مع مواصلة دراسة اللغة الفرنسية بالمعهد الفرنسي بين العصر والمغرب، وما خفف عنا معاناة الغربة طيبة أهل السودان، فشعرنا كأننا بين أهلنا.
وكنا نستمع الى “إذاعة الكويت” بوضوح من راديو ماركة “زينيت”، والكويت تبعد عنا مسافة أكثر من ألفي كيلومتر، مع صعوبة الاتصال الهاتفي مع الأهل، ثم تحملنا مخاطر أمنية كوقوع محاولتي انقلاب ضد الرئيس السوداني جعفر النميري في عامي 1976 و1977، وخرجنا بآمان بفضل من الله، أما اتصالنا الرسمي مع الكويت فكان عبر جهاز اللاسلكي، وتدريجياً تأقلمت مع حياة البلد.
في وقت ما طلبت منا الحكومة إرسال مندوب عنها الى ميناء “بورسودان” للإشراف على وصول معونة كويتية لجهة ما، وأعتذر عن ذكر مضمونها لحساسية المهمة، فسافر الزميل مساعد الردهان، ثم سافرت أنا عند وصول المعونة الثانية، ووقعت على أوراق بخصوصها، ولما دعاني القبطان الانكليزي إلى طاولة العشاء داخل السفينة، أبلغني بتسلمه برقية تفيد بوفاة الشيخ صباح السالم، رحمه الله وطيب ثراه، وكان الخبر مساء يوم 31 ديسمبر 1977، أي مثل هذا اليوم قبل 45 عاما.
تجربة السودان ومشقة الحياة فيها علمتني الكثير، جعلتني أقول: “لو جرب الناس الحرمان لعرفوا معنى النعمة، ولصقلتهم تجارب الحياة، وظهر بريقهم لامعا، تماما كما يُزال الصدأ عن المعدن إذا تعرض للطرق”.
عرفت معنى الحرمان من الكهرباء والماء والطعام، عرفت أننا في الكويت في نعمة عظيمة بفضل الله، لكن بعضنا لا يشعر بها أو يكون معول هدم لبلده مثل بعض النواب، كنا نقرأ الكتب، ونحترم من هم أكبر منا، كانت لدينا مشاعر راقية، فالإنسان كلما صقلته التجارب عبر السنين أصبح مرهف الفؤاد يحب الخير للناس.
سفير كويتي سابق
aldawas.ahkwt@yahoo.com