ذكريات شخصية عن الغزو العراقي للكويت (2)
حمد العامر
… في اشد اللحظات قسوة وانا اجمع ذكرياتي بين باريس ولندن وبومبي والبحرين، دفعني الى ان اكتب واقدم كل ما في طاقتي واكثر لهؤلاء الرجال العظام الذين وقفوا امام الغزو، وكتبوا تاريخا لا يمكن لاحد نكرانه او نسيانه من اجل هدف واحد وهو تحرير الكويت.
من هذه النقطة، وتلك التضحيات، ومواقف الرجال واصلت عجلة التاريخ دورانها، وهو ما لا بد من الاشارة اليه منذ بدء الغزو في ذلك الفجر من 2 أغسطس عام 1990، لقد كانت لوحة ملحمية رائعة لان الرجال لا يتكررون، ولا الامم تستطيع تكرار معجزاتها، فقد كانت المقاومة الداخلية والموقف الخليجي لدول “مجلس التعاون” الذي قاده الملك فهد بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه، وما قدمه التحالف الدولي، لحظة بذاتها من الحياة غير القابلة للتكرار.
من الذكريات المهمة للرجال الاوفياء الذين سطروا التاريخ في تلك الفترة، اتذكر الشيخ مبارك الجابر الاحمد الصباح، واتصالاته بالاليزيه للاجتماع بالرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للتباحث معه حول آخر تطورات الاحداث المتسارعة، وكان ذلك الاجتماع في اليوم الثاني من الغزو، وكنت موجودا في باريس في الاول من اغسطس 1990 التي وصلتها مع عائلتي في ذلك اليـــــــــوم، وكان الشيخ مبارك شخصيا في استقبالي بمطار “شارل ديغول”.
في اليوم التالي كانت الكارثة التي لم اكن اتوقعها، وكنت اشاهد على القنوات الفضائية الفرنسية صورا وافلاما للطائرات والبوارج المتجهة للخليج العربي، دون معرفة حقيقة ما يجري، لان كل التعليقات التلفزيونية باللغة الفرنسية، لذلك خرجت من الفندق لتقصي ما يجري، ووجدت عدداً من اصحاب سيارات الاجرة المغاربة وهم يستمعون لاذاعة “الشرق” العربية التي تبث من باريس، عندها اتضحت الصورة امامي لفداحة ما جرى واسباب عدم رد الشيخ مبارك على اتصالاتي، حيث كان مشغولا باتصالاته بالرئيس الفرنسي ميتران لتقديم صورة واضحة لمجريات الاحداث حتى اللحظة وكان من اهمها:
ولا: اهتمام الحكومة الفرنسية الذي دفع بميتران الى ان يترك مقر اقامته في عطلة نهاية الاسبوع ويستقبل الشيخ مبارك في الاليزيه، وكان ذلك يوم الاحد 4 أغسطس 1990، كما استقبله مرتين بعدها، وكان صلة الوصل بينهما ابن الرئيس كريستوفر.
ثانيا: شرح الشيخ مبارك اهم التطورات الجارية على الساحة بعد الغزو الغاشم، والتي كانت تصله من الطائف، مقر الحكومة الكويتية الموقت، كما ابدى الرئيس رغبة الحكومة الفرنسية في الاطمئنان ومعرفة مصير امير الكويت الشيخ جابر الاحمد، رمز الدولة ووحدة الشعب الكويتي، واوضح له الشيخ مبارك انه غادر قصر دسمان في اللحظة المناسبة، ودخل الاراضي السعودية في الخفجي بمعية الشيخ سعد العبدالله الصباح، ولي العهد، رغم اصرار امير الكويت على البقاء لمواجهة الغزاة، الا ان الشيخ سعد اجبره على المغادرة.
ثالثا: بحث الشيخ مبارك مع الرئيس الفرنسي قضايا عدة كانت تصله من سمو الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح، وزير الخارجية، آنذاك، والموقف الفرنسي الداعم للكويت، وتبادل وجهات النظر قبل التوجه الى مجلس الامن الدولي الذي كان مرتقبا ان يصدر عنه قرار تحت”الفصل السابع” الذي يجيز استخدام القوة، وتشكيل التحالف الدولي لارغام صدام حسين على الانسحاب، وقد لقي الشيخ مبارك الدعم المتوقع من الحكومة الفرنسية التي ابلغها لحكومة الكويت.
كانت تلك اولى الذكريات مع وقائع الغزو العراقي الغاشم للكويت عام 1990، الذي اختار التاريخ اول رجاله من باريس، رغم بعد المسافات لان اختيار ابطال المشهد لم يكن معداً سلفاً، بل جاء دون تخطيط مسبق، الا انه ارتكز على حسابات استطاعت مواجهة لحظة رفع الستار، وما بعدها ليتشكل الموقف، والفعل الذي ساعدا في التوجيه لاتخاذ القرار الفرنسي في مجلس الامن الدولي.
من هنا كان حجم المصيبة ودقة حسابات اللحظة والكفاءة العالية في معالجة الاحداث، والكويت تحت الاحتلال، مهمة جدا في نجاح المهمة الديبلوماسية التي كُلف بها الشيخ مبارك الجابر الاحمد في باريس مع الرئيس الفرنسي.
…ويتبع
وكيل وزارة الخارجية البحرينية للشؤون الإقليمية
و”مجلس التعاون” السابق