فقه المحقق… وعمل الباحث في التراث والتاريخ الإسلامي
محمد جمعة عبد الهادي موسى
“إن كل محقق باحث، وليس كل باحث محقق”، وهذا صحيح لمكانة المحققين عمومًا، ولقد تبينت أيضًا أن المحققين جميعهم ليس لديهم “فقه التحقيق”، إنما يتوفر ذلك عند قلة قليلة منهم، والمقصود بذلك أن المحقق في كثير من الأحيان قد لا يعي القيمة العلمية للمادة التي يحققها، بحيث يتمكن من إتاحتها بصورة جديرة يستفاد منها الباحثين، فهو يقف فقط عند حد إخراج النص كما كتبه صاحبه؛ ثم الفهارس والكشافات التحليلية المعتادة: الأعلام، البلدان، الخ؛ لذا فإن كثير من المصادر المحققة التي خرجت، حتى بتحقيقات المشاهير، من دون إعداد وتجهيز جيد ليتم للباحثين الاستفادة القصوى منها.
ولربما هذا المعنى ليس للمحقق صلة به، إنما هو عمل الباحث الذي يجمع بين هذا وذاك، لكن قلت سابقا: فطبيعة عمل المحقق إنشاء الفهارس التي تكشف عن المحتوى المحقق، والأمر ليس مقصورا على اخرج النص الفهارس القديمة ذاتها: البلدان والأعلام، إنما الواجب أن ينظر المحقق أيضًا إلى أهمية النص للباحثين.
ومثال ذلك: تحقيق العلامة الدكتور بشار معروف لفهرسة ابن خير الاشبيلي (ت575هـ):
وفيها يتبين فيما أعتقد أنه قد غفل أن الفهرسة لعالم أندلسي، وبها مرويات متباينة عن علماء مشارقة وأندلسيين ومغاربة، ومن ذلك كمثال أنه يغفل عن الترجمة لأبو الْحسن شُرَيْح بن مُحَمَّد بن شُرَيْح الرعيني الْمُقْرِئ (الفهرسة، تحقيق بشار، ص 49) في موضع الكتاب المروي ذاته، فهو “إشبيلي”. فكان من المفترض فيما أعتقد أن يبين في التراجم التي تجلت في حواشيه أيهما أندلسي مع تحديد موضعه؛ فتتجلى هنا فوائد عدة للباحثين، إلا أن الفهارس لم تكشف عن ذلك.
وفي المثال المذكور تفقد الفهارس التالية: فهرس مرويات الكتب وفق المواضع بالأندلس: قرطبة، إشبيلية، (لمعرفة طبيعة الحركة العلمية بالموضع)، فهرس الأعلام الأندلسيين وفق مواضعهم فيمن روى عنهم ابن خير الإشبيلي (لقراءة تأثير المرويات وجهود الأعلام في نشرها في المدن الأندلسية).
فهرس الأعلام وفق أنسابهم (القبيلة، لمعرفة أثر القبائل في رواية الكتب).
فهرس مرويات الأعلام وفق تاريخ وفاتهم (العصر).
فهرس الأعلام المشارقة (لمعرفة أثر المشارقة).
فهرس الأعلام المغاربة (لمعرفة أثر المغاربة).
فهرس مرويات الأبناء عن الآباء (لمعرفة الصلات العلمية داخل البيوتات والأسر العلمية). وغيرها: وهو ما سيتجلى بعون الله تعالى في إخراج الفهرسة مرة أخرى تحت “الدراسة والقراءة والتعليق، مزودة بنحو خمسة عشر فهرسًا وجداول تحليلية”.
وفي هذا المثال أمثلة أخرى، وعيوب هذه التحقيقات لا تتعلق بالمحقق فهو محقق للنص فقط، مسؤولا عن سلامة النص مصوبًا مدققا، لكن هل يتطور عمل المحقق ليشمل فهارس جديدة توضح المحتوى المحقق، ويتبين منه الباحثين تقارير علمية جديدة أم يقف المحقق على خطته ومنهجه القديم.
* إشارة مرجعية: محمد جمعة عبدالهادي: “الفروق والمراتب في إنتاج المؤلف”، (“السياسة”، الكويت، الثلاثاء، 22 ربيع الآخر، 1439هـ/ 9 يناير، 2018، السنة: 49، العدد: 17626).
باحث دكتوراة في التاريخ الإسلامي