في أنْ يحضر الإنسان جميلاً (2 من 2)

0 287

محمود كرم

فنّ الحياة، كما أحسبه دائماً، هو فنّ التعالق والتقدَّم الأخلاقيّ مع الآخر، إنّكَ لا تستطيع أنْ تخلقَ مِن الحياةِ فنّاً، ومن الفنّ حياةً، إلاّ حينما تجد أنّ الآخر يملكُ أنْ يمنحكَ من أخلاقهِ أخلاق الثّقة الكاملة، في أنْ ترى نفسكَ على نحوٍ جديدٍ وأجمل، وهو الآخر لا يحضر جميلاً، إلاّ حينما يرى ذاته وقد تعالقتْ وتقدَّمتْ أخلاقيّاً مع وجودك، إنكما في هذا الفنّ من صناعة الحياة الجميلة، تتشاركان في تقديم الأخلاق، على إنّها جوهر المشترك الإنسانيّ بينكما، أخلاق التكامل الذي يتأسَّس إنسانيّاً على فنون التوافق الشّعوريّ، والتداول والتبادل الثقافيّ، والانسجام العاطفيّ، وإنّكَ في هذا التكامل الأخلاقيّ، تستطيع أنْ ترى في الآخر جانباً جميلاً تزخر به أعماقهِ، والآخر يستطيع أنْ يتحسَّس جانباً جميلاً في أعماقك، فالأمر يتوقّف دائماً على جمالية التكامل الأخلاقيّ في صناعة فنّ التعالق الإنساني بينكما، بحيث إنّكَ تستطيع أنْ تشعر بما عليكّ أنْ تشعر به جميلاً تجاه نفسك، حينما تتكامل حضوراً أخلاقيّاً مع الآخر، والآخر أيضاً يستطيع أنْ يشعر بما عليهِ أنْ يشعر به جميلاً تجاه نفسه، حينما يتعالق معك أخلاقيّاً في فنّ التكامل.
وشخصياً أعتقد أنّ في أيّ حقيقة ما، دائماً هناك جانبٌ أبيض، قد يتّسع لِحقيقةٍ أجمل وأنصع، لأنّه الجانب الحافل بالنوايا الإنسانيّة البيضاء، وعادةً ما يتجسَّد في سلوك أولئكَ الذين لا يكترثون بالأشواك والأقاويل الفارغة، ولا يلتفتونَ إلى الأدلجات الطنانة والمذهبيّات الخانقة وبريق الأضواء الزائفة، فنراهم ينثرون الورد والحبّ والضوء هنا وهناك، ويمضونَ خِفافاً إلى اشتياقاتهم وأفعالهم وتطلعاتهم، وفي قلوبهم من دفق الحياةِ، أحلامٌ وآمالٌ وأمنيات، يحضرونَ اعترافاً بِجمال حضورك إنساناً في صناعة الحياة الجميلة، الخالِية من التشوّهات والزيف والنفاق والتعالي، وحتّى لو اختلفتَ معهم في الرأيّ يبقونَ معك دائماً، ولا تستطيع إلاّ أنْ تكون أيضاً ممتناً لهم، لأنّهم يشاركونكَ بمحبّةٍ وودٍّ وصدق، ذلك الجانب الأبيض من حقيقتكَ وحقيقتهم.
وكم أحسبُ أنّ الحياة تصبح ممكنة، إذا ما تركناها حرةً ورشيقةً، تنسابُ بالتنوّعات والألوان في عقولنا ومشاعرنا، وكم ستكون قاتمة وجامدة ومتراجعة، إذا ما جعلناها تندرج تحت لونٍ وتفكير واعتقاد واحدٍ، ففي هذه الحالة تموت من فورها، ولا تملكُ شيئاً من أسباب الألق والحريّة والشساعة والتنوّع، وكم يصبح الإنسان فيها عاجزاً وبائساً، لا يشعر بلذة الجمال في التنوّع والتعدد والرحابة، فالحياة عموماً تمضي ولا تكترث بِمَن لا يجاريها أو لا يحبّها، ولذلك أولئكَ الذين يحضرون جمالاً في تنوّعاتها وألوانها ورحابتها وسفوحها الطليقة، يدركونَ أنّ سعادتهم تعني أنْ يروها تتمثّل جمالاً في عيونهم وعقولهم ومشاعرهم، فأجمل ما يمكن أنْ يفعلوه، وهم في تدفقات الحياة، أنْ يروا إبداعاتهم وانجازاتهم وتطلعاتهم وآمالهم تكبر دائماً في ما يحبّونَ من حياتهم، ويملكون في الوقتِ ذاته مهارة التواصل الخلاّق مع كلّ مِن يشاركهم متعة هذه الحياة حضوراً وإبداعاً وتفنّناً ورغبةً، وكلّ ذلك يجعلهم يحافظونَ على الحياة دافقة بالجمال والتخلّق في نبضهم وشعورهم وأفكارهم.
وقد نتساءل: لماذا الورد يحضر جميلاً دائماً؟ نستطيع أنْ نقول من غير اسرافٍ أو مبالغة، لأنّه لا يعرفُ غير لغة الحبّ، فالحبّ في حضورهِ، لغته وعنوانه وصفته وعلامته الفارقة، ومتى استطاع الإنسان امتلاك الكثير من الحبّ تتضاءل كثيراً الكراهية في شعوره ومشاعره ولغته وحياته، لأنّه يحضر بالقدر الوافر من الحبّ، والذي من خلاله يستطيع أنْ يجد فيه إنسانيّته.
لن تعيشَ أيّها الإنسان تعيساً ما دمتَ قادراً على منح الحبّ لِغيرك، لأنّكَ في هذا الجانب من إنسانيّتكَ تعرفُ كيف تحبَّ ذاتك أولاً، طريقاً إلى محبّة غيرك، وكيف عليكَ أنْ تحضر جميلاً أمامها ثانياً، وفي كلّ ذلك تعرف جيّداً كيف تصغي لذاتك، وهيَ تقودكَ خلاّقاً إلى أنْ تبحث عن الجمالِ في ذات الآخر، وتعرفُ أنّ الأشياء الجميلة في أعماقك وأعماق غيرك، لا تخلو من العظمة والبهاء، لأنّها دائماً ما تبقى حقيقيّة في إدراكاتها للمعاني الفسيحة والملهمة والخالقة، وهذه المعاني التي تجدها تأخذكَ إلى الجمال، هيَ ذاتها التي تحسبُ إنّها تستطيع العودة بكَ إلى الأجمل في ذاتك، وتضعكَ مجدداً في صميم الحبّ والحريّة، وتبعثكَ جميلاً في حضورك الإنسانيّ، فهي باختصار تجعلكَ إنساناً تستطيع بكلّ ما تملكُ من إنسانيّة الشعور بالحبّ والجمال، ألاَّ تحضر كارهاً أو شاتماً أو لاعناً، أو حاقداً أو جاهلاً أو متسلطاً أو عنيفاً أو مبغضاً، أو مستبداً أو منافقاً أو وقحاً أو متعالياً، فتحضر جميلاً، وترى في إنسانيّتكَ جمالاً وتهذيباً وتحضَّراً.

$ كاتب كويتي

Tloo1996@hotmail.com

You might also like