“كورونا”: القومية على أنقاض العولمة

0 318

أحمد غلوم بن علي

صرحت الشركة الأميركية “3 إم” العملاقة والمصنع الأول للأقنعة الطبية “إن95” أن الحكومة طلبت منها إيقاف تصدير الأقنعة إلى كندا وأميركا اللاتينية وبقية العالم وتحويل جميع طاقاتها الإنتاجية إلى الولايات الأميركية، مستندة بذلك إلى قانون الإنتاج الدفاعي لعام 1950م والذي يعود إلى زمن الحرب الكورية، يؤكد هذا الخبر والأخبار الشبيهة الأخرى ما كان أغلب مفكري العالمين الشرقي والغربي يشيرون إليه من أن ما يسمى بالعولمة ليست إلا أداة مبتكرة من الفكر النيوليبرالي لاستغلال العالم وشعوبه متى ما تشاء.
هذه العولمة والتي شيدت بأركانها الثلاثة “صندوق النقد والبنك الدوليين مع منظمة التجارة العالمية” بدأت اقتصادية وتحولت شيئا فشيئا إلى أداة سياسية لتغيير حكومات، وثقافية لتغيير سلوك المجتمعات لتنتج أسواقا مفتوحة بعقول مصاغة لتقبل السلع والماركات المنتجة من تلك الدول، هذه العولمة كانت بداياتها تراكم الرأسمال الاميركي و”الاوروبي” الذي كان في حاجة للبحث عن أسواق جديدة، فكان أن حول العالم لسوق موحد تمتد فيه الشركات العابرة للقارات لتغير سلوك وأنماطا لتتماشى ومنتجاتها، ضاربة سيادة الدول عرض الحائط ومن يحاول الوقوف أمامها يجد نفسه منصاعا إما لاشتراطات البنك الدولي بعد أزمة مالية داخلية، أو مجبرا على توقيع اتفاقية منظمة التجارة العالمية لأسباب جيوسياسية.
هذا الاختراق للسيادة وما تبعه من تحول الاقتصاد الطبيعي للدول إلى اقتصاد استهلاكي معولم، وتحرير اقتصادي بدعم من البنك الدولي أنتج دولا بلا رعاية اجتماعية في كثير منها. اليوم استفاقت هذه الدول الضحية وبعد انغلاق العالم على نفسه على حقيقة أن اقتصادها لم يكن إلا سوقا خلفيا لبيع منتجات دول النيوليبرالي وهي اليوم غير متاحة، يقول ميلانوفيتش وهو بروفيسور في مدرسة لندن للاقتصاد لفورين أفيرز أن “العالم يواجه احتمال تحول عميق، العودة إلى الاقتصاد الطبيعي، أي الاعتماد على النفس، وهذا التحول هو المضاد للعولمة”.
هذا التحول نحو الاقتصاد الطبيعي والاكتفاء الاقتصادي لا يكون دون تصاعد الشعورالقومي كما يرى جون جون إكنبيري “أستاذ السياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون “من الصعب رؤية أي شيء آخر غير تعزيز الحركة نحو القومية”، هذا الوباء اليوم أعاد صياغة هذا الشعور القومي في أرجاء المعمورة، فكان أن تصاعدت أصوات الحركات اليسارية واللوبيات المتشددة ضد المهاجرين، وتصاعدت أصوات سياسية أيضا ضد خذلان الاتحاد الاوروبي في إعانة الدول ذات الاقتصاديات الناشئة والمتضررة في الاتحاد كإيطالية مثلا، وتوالت الصيحات ضد الاختلالات السكانية.
في الدول العربية كان الشعور مشابها لشعور ايطاليا والسويد وغيرها، وهو ما نمّى الشعور بضرورة الاتكال على الذات اقتصاديا وسياسيا، وإذا ما غضضنا النظر عن بعض الشعور العنصري أو الشوفيني لبعض القطاعات من مجتمعاتنا العربية، فإن الشعور المهيمن هو انبعاث الثقة بالذات الوطنية والقومية، حيث إن الاتكال على مثل تلك الدول التي تتصارع اليوم على الكمامات وأدوات الوقاية الطبية أثبت عدم جدواه، التي أثبتت فشلها في قيادة العالم أمام الوباء، فكما قال نعوم تشومسكي في مقابلة على يوتيوب “طريقة مكافحة الولايات المتحدة الأميركية لـ”كورونا” هو أسوأ نموذج على الإطلاق” فتلك الدول المتقدمة لم تجتمع إلى هذا اليوم عبر مجلس الأمن الدولي لإقرار خطة لمحاربة وباء كوفيد-19.
يكمل تشومسكي مقابلته قائلا “كورونا هو نتيجة لانهيار المؤسسات التي كان يمكنها أن تتعامل معه لو كانت تلعب دورها”، فلولا انقطاع المختبرات الطبية بمواصلة البحث في الفيروسات السابقة من عائلة كورونا بدواعي عدم الربحية التجارية لكان اليوم لفيروس كوفيد-19 خريطة جينية واضحة ولكان اللقاح اليوم متوفر، فالشركات في هذه الدول النيوليبرالية واللاقومية هي التي تمتلك أغلب المختبرات العلمية “يعود سبب ذلك إلى الرئيس رونالد ريغان الذي مُرّر قانون Bay & Dole الذي سمح لأطباء الجامعات بتسجيل إحصاءاتهم كبراءة اختراع تُحتسب لهم مادياً”.
يبدو العالم اليوم أكثر قابلية للعودة إلى الذات وترميم السيادة الوطنية ليس بالشعارات والإعلام وإنما عبر خطط إنقاذ وطنية تمازج بين قوام اقتصادي ذاتي ومجتمع متلاحم والدولة، وهذا لا يكون إذا ما تنازلت الدولة عن بعض أدواتها التسلطية التي “تبدو اليوم مسننة” لصالح مثل هذا التمازج، وهو تنازل لن يكون كبيرا، فأزمة الوباء أشارت بما لا يدع من شك أن دولة الرعاية الاجتماعية ضرورة.
إن الفكر النيوليبرالي الذي أنتج العولمة التي قامت بدورها بتقليل دور الدولة كدولة رعاية اجتماعية، هذه الأخيرة كانت تدفع بأحد أوجهها بتلاحم الدولة والمجتمع وبوجه آخر قوة سيادة الدولة، وهما عاملان كانا دافعين بتعزيز الشعور بالقومية، اليوم الدولة استعادت سيادتها “ولو موقتا” وأغلقت الحدود المعولمة، فازداد الشعور بالقومية والوطنية.
كاتب كويتي

You might also like