واشنطن واختراق حاجز الثقافة

0 356

د. محمد الدعمي

غدا الوجود الأميركي المباشر في الشرق الأوسط حالا غير طارئة ولا موقتة، اذ إن عقود الغياب والاتصال غير المباشر بدول وشعوب هذه المنطقة، خصوصا بعد انزلاق بؤرة الستراتيجية الأميركية من إقليم جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي إلى المشرق العربي الإسلامي، طوّرت الإدارات الأميركية المتعاقبة وجوداً مباشراً… وجوداً غير مأسور بالكلمة المكتوبة والحرف المطبوع، ولا بالعمل بالوكالة من خلال الوكلاء.
درجة إمكانية الحديث اليوم عن “تاريخ” لهذا الوجود، وهو تاريخ قصير لا يتجاوز العقدين المشحونين بالتعقيدات والمعضلات التي تنذر بالكثير إن لم تتمكن واشنطن من بلوغ التصرف المناسب الذي يجعل منها عنصر بناء بدلاً من أن تكون عنصر هدم أو لا استقرار، ويبدو للمتابع أن واحداً من أهم عوائق بلوغ هذا الهدف هو” الجدار الثقافي” الذي لم يزل يقض مضاجع الإدارة الأميركية بسبب العجز عن اختراقه وتجاوز عقباته.
لقد أدركت الإدارة الأميركية منذ وقت مبكر أن حضورها المباشر في منطقة الشرق الأوسط، اعتماداً على القوات المسلحة، يتطلب فهماً مناسباً وكافياً لثقافة شعوب هذه المنطقة ذات الغالبية العربية الإسلامية، والأدلة على ذلك عدة ومتنوعة، إذ يذكر الذين تابعوا حرب عامي 90-1991 أن العجز عن استيعاب عادات وتقاليد شعوب هذا الإقليم يمكن أن يقود إلى خلق الحساسيات وتعاظمها الى حد تحولها عوائق سياسية وآيديولوجية.
وقد نشرت التقارير الصحافية والإخبارية عن كراسات ودورات تثقيفية سريعة نظمتها أجهزة عسكرية واستشارية أميركية متخصصة لـ”تنوير” الضباط والجنود المتواجدين في منطقتنا بطرائق التعامل مع سكانها العرب والمسلمين، مع إشارة خاصة إلى تجنب كل ما من شأنه استفزاز اصول اللياقة العربية، أو الأخلاقيات الإسلامية على نحو يستثير هذه الحساسيات أو يستفزها.
في تلك المرحلة المبكرة كانت الكراسات و”الوصايا” الرسمية للعكسر تعكس جهلاً واضح المعالم بالثقافة العربية الإسلامية، فقد تحددت هذه الوصايا والتعليمات باللياقات وطرائق التعامل الشكلية مع الشخصية العربية أو المسلمة.
قد ظن الخبراء الأميركان انهم يمكنهم تجاوز هذه العقدة بمجرد التأكيد على الجنود الأميركان بضرورة الوقوف على أرجلهم عند استقبال أو تحية رجل عربي، زيادة على أهمية الامتناع عن مجالسة أحد سكان المنطقة بوضع ساق على ساق بحيث يكون أسفل القدم في وجه الرجل المحلي.
كما اعتنى الخبراء، آنذاك، بتجنب استثارة”الغيرة” العربية، وما يرافقها من حساسيات حيال المرأة العربية أو المسلمة، إذ ركزت هذه الوصايا على وجوب الامتناع عن النظر، أو إطالة النظر إلى أي امرأة عربية أو مسلمة، ناهيك عن التحدث معها، لأن في هذا الفعل إثارة لحفيظة الرجل الأسمر، خصوصا ذلك الذي يحتفظ بأعباء تراث صحراوي وروحي عميق.
وإضافة إلى أهمية أساليب ارتداء أنواع الملابس اللائقة، ركزت الوصايا على كيفية التعامل مع الباعة في الأسواق، وعلى أساليب طرق التحدث والكلام اللائقة في مجتمعاتنا المحافظة.
لكن الاحتكاك الأميركي المباشر والمستطيل مع سكان المنطقة، وبخاصة بعد غزو العراق (2003)، قدم جميع الدلائل والقرائن على أن مثل هذه الوصايا والتعليمات المتعلقة بالشكليات لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تتجاوز مأزق التواصل والتفاهم بين ابناء ثقافتين مختلفتين، الأولى عربية إسلامية محلية، والثانية أميركية، مستقدمة من “العالم الجديد”.
الأدلة كثيرة على إخفاق رؤية الخبراء الأميركان المتخصصين، فهي متوافرة عبر العراق على نحو كبير درجة إمكانية التكهن بأن هذه المعضلة كانت واحدة من أهم مسببات الشائكية، والتعقيد، اللذين يواجههما الأميركان.
لقد دلت تجربة الولايات المتحدة في العراق (حتى العام 2011) على أن الموضوع لا يمكن أن يتحدد بطرائق المجالسة والتحية، والتعامل بحذر فقط، ذلك أن هذه لا تزيد عن أن تكون القشرة الخارجية لثقافة عربية إسلامية أكثر عمقاً وتعقيداً بكثير مما كانوا يتوقعون، الأمر الذي زاد من التباس الموقف الأميركي في العراق، لاسيما في المناطق التي تكون فيها العلاقات الاجتماعية البدوية والقبلية سائدة.
لقد وجد الأميركان أنفسهم في فخ ثقافي على حين غرة، خصوصا عندما اعتقدوا أن الديمقراطية هي”بدلة” جاهزة يمكن أن يرتديها من يريدون، متناسين أن الديمقراطية الحقيقية، وكما هي مطبقة في العالم الغربي ذاته، هي
” أسلوب حياة” وطريقة عيش إجتماعية. طريقة لم تتمكن حتى أوروبا من الإرتقاء إليها إلاّ بعد قرون عدة من العمل والكفاح، الحروب والصراعات.
لقد لبس العديد من العراقيين وسواهم من سكان الإقليم هذه البدلة الجميلة، إلاّ أنها ظهرت للعيان مشوّهة، وربما قبيحة لأن السكان، ببساطة، لم يعتادوا مغادرة الموروث بين ليلة وضحاها بعد دهور من الوجود البدوي، أو نصف البدوي حتى داخل الحواضر.
لهذا السبب عدت فئات كثيرة من المجتمعات الشرق أوسطية أن الديمقراطية إنما هي تقديم الولاءات الصغيرة والمصالح الفردية، والقرابات المجهرية، على المصلحة الإجتماعية والسياسية الوطنية الأشمل، ويدل انتعاش الإستقطابات الطائفية، والعشائرية والمناطقية هذه الأيام على إخفاق فئات واسعة جداً من هذه المجتمعات حتى في إرتداء “بدلة الديمقراطية”. كان ينبغي للأميركان ولسواهم من الغربيين الطارئين على المنطقة أن يدركوا أن الديمقراطية وما يرافقها من حريات ومنظومات سلوكية إنما تشكل اسلوب حياة وأسلوب تفكير لم يكونا موجودين لدى السكان المحليين على نحو خاص، بعد عقود من الحكومات الشمولية وسيادة الذهنية العشائرية المحدودة.
لهذا السبب أخفق الأميركان في استمالة فئات واسعة من المجتمعات الشرق أوسطية، لأنهم تعاملوا مع القشرة الخارجية لثقافاتها المتنوعة فقط، آخذين بنظر الاعتبار حماية ذواتهم وإستتباب الأمن المنظور والمؤقت طوال فترة بقائهم. لم تكن القوات الأميركية تدرك القيم الاجتماعية التي تختفي وراء رجل معين حين تلقي القبض عليه، خاصة قيم القرابة والثأر والإنتقام وغسل العار، وهي القيم السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية عامة، شاء المرء أم أبى. النقطة المهمة في هذا السياق هي أن القيادات العسكرية والإستخبارية الأميركية التي تمركزت في العراق (على نحو لم يسبق له مثيل في العالم) تدرك حقيقة هذا الإخفاق بالرغم من فشلها في التقاط رأس الخيط الذي يمكن أن يساعدها على ليّه بسلام. هذا ما يؤرق هذه القيادات. ثمة مؤشرات عديدة عكست البحث الأميركي في الشرق الأوسط عن “مستشارين اجتماعيين”، أو هكذا يفضلون أن يسمونهم. بيد أن الضالعين والأكثر إطلاعاً على البنى الاجتماعية والقيمية في المنطقة يعصون على التوظيف أو الاستخدام بسبب الخشية من تهمة “التعاون” مع الأجنبي. فاجأني واحد من العاملين في صحيفة أميركية واسعة الانتشار، مرة، بخبر البحث عن أسماء أشهر النسابين والضالعين بشؤون الأصول والعشائر العربية في الإقليم تلبية لطلب مقابلتهم من قبل صحافي أميركي بارز. يريد هذا الصحافي المعروف أن يعرف كل شيء عن العشائر والأسر العريقة وطبيعة الصراعات الاجتماعية القديمة. هذا، بكل تأكيد، هو المؤشر على أن الإدارة الأميركية تعاني من إعياء بسبب عدم القدرة على تخطي الجدار الثقافي/الاجتماعي بينها وبين المجتمع الذي استزرعت نفسها بداخله.

كاتب وباحث أكاديمي عراقي

You might also like