يا ولي الأمر… هل نحن بحاجة إلى الأمير الصيني تاي؟
حين ينعزلُ الحاكمُ عن الشعب، ويُصبح الروتين فريضة، والتقليد غير قابل للمسِّ عندها تبدأ الدُّول بالسير إلى الفوضى، لذلك حرص الملوك والقادة القدماء على تأهيل أجيال من بيت الحكم، وعلموهم كيف يُصبحون قريبين من شعوبهم، يسمعون أنينهم، وليس صراخهم.
في العقود الماضية كادت معظم الدول العربية، ومنها بعض الخليجية، تصل إلى حد قداسة التقليد، لذا لم تُعر الإبداع في الحكم أي اهتمام، وهو ما أدى في غالبيتها إلى الفوضى، والإفساح في المجال للعسكريين بتنظيم الانقلابات، وتشكيل أشباه دول، وأوجدوا أنظمة تقوم على القمع والانغلاق، والشك بأي كان، فقتلوا روح المبادرة لدى الناس.
المؤسف، أن الدروس القاسية التي شهدها العالم العربي، منذ العام 1952 حتى اليوم لم تُغيِّر من واقع بعض الأنظمة التي استمرت على سيرتها الأولى، لهذا تركت الأمور إلى غير أهلها، فاختير وزراء لمناصب أكبر منهم، وأدت عمليات التجميل الإعلامي دورها في تسويقهم، لكن مع خروجهم من المنصب كان يظهر الخراب؛ لأن هذا المسؤول الضعيف استعان بالأصحاب والأحباب والمُقربين كي يغطوا عليه، فيما هو أغلق أبوابه أمام العامة، ورأى في المنصب برجاً عاجياً يُبعده عن المُحاسبة.
لم تكن الكويت بعيدة عن هذا الواقع، لهذا رأينا معدل فساد “لا تحمله البعارين”، كما قال المغفور له، الشيخ صباح الأحمد، رحمه الله، يوماً عن مؤسسة واحدة، فيما الصورة يُمكن تعميمُها على غالبية المؤسسات.
في هذا الشأن استوقفتني حكاية من الأدب الصيني عن أهمية تدريب القادة، إذ يروى أن أحد الملوك أرسل ابنه، وكان يدعى تاي، إلى أحد الحكماء؛ كي يتعلم على يديه، فطلب الحكيم إلى تاي الذهاب إلى الغابة، وأن يمكث فيها بمفرده عاماً كاملاً يستمع للأصوات التي تصدر منها.
بعد انقضاء العام عاد الأمير إلى الحكيم، وأخبره أنه سمع صوت الوقواق، وحفيف أوراق الشجر، وصوت الطائر الطنان، وصراصير الليل، وطنين النحل، وصوت الريح، فطلب الحكيم من الأمير العودة مرة أخرى للغابة، ويقضي عاماً آخر لعله يسمع أصواتاً أخرى غير تلك التي سمعها.
بداية تضايق الأمير، لكنه استجاب وذهب، وحاول أن يسمع أصواتاً مختلفة، فلم يسمع أي صوت، لكن في صباح أحد الأيام، وعندما كان جالساً تحت إحدى الأشجار، سمع صوتاً خافتاً غير ما سمعه من قبل، وعندما أرهف السمع بدت تلك الأصوات أكثر وضوحاً، فقال لنفسه: لا بد أنها ما أراد مني الحكيم سماعها، بعد انقضاء السنة التالية عاد الأمير، فسأله الحكيم عمّا إذا سمع شيئاً جديداً.
فقال: عندما ركزت بشدة، سمعت ما لم أسمعه من قبل، سمعت صوت الأزهار تتفتح، وصوت الشمس وهي تدفئ الأرض، وسمعت صوت العشب يشرب ندى الصباح.
أومأ الحكيم برأسه موافقاً، وقال: “لتسمع ما لم يُسمع أمر ضروري لكل حاكم، وعندما يستمع الحاكم لما يدور بقلوب الناس، والمشاعر التي لم يُفصحوا عنها، والألم الذي لم يُعبروا عنه، والشكوى التي لم ينطقوها، سوف يخلق الثقة في شعبه، ويفهم أن شيئاً ما خطأ، ويلبي احتياجات شعبه الحقيقية”.
أضاف: “زوال الدول يبدأ عندما يسمع الحاكم الكلام السطحي، ولا يتغلغل بعمق في نفوس شعبه؛ لكي يستمع إلى آرائهم ومشاعرهم ورغباتهم الحقيقية”.
لا شكَّ أنَّ بعض دولنا حالياً بحاجة إلى هذا النوع من الحكماء والقادة مثل الأمير الصيني تاي؛ لأن دوام الحال على ما هي عليه لا شك سيؤدي إلى ما أثبته عبدالرحمن بن خلدون قبل 700 عام، الذي يبدو من خلال أفكاره أنه لايزال يقرأ واقع بعض دول المنطقة، من تعصب للطائفية والقبيلة على حساب الوطن، فالناس حالياً يلوذون بطوائفهم لا بأوطانهم، وليس العراق ولبنان وسورية وليبيا واليمن إلا بعض الأمثلة مما آلت إليه أساليب الحكم القائمة على الروتين والتقليد، فكثُرت الحروب والمؤامرات والدسائس والتحالفات حين أصبح العدو صديقاً، والصديق عدواً.
حين يسمع الحاكم أنين شعبه، عندها يكون قد قطع نصف الطريق إلى العلاج، فيكون قراره حازماً، ورؤيتُهُ واضحةً لا تُعكرها وشوشة المستشارين وبذلك تنهض دولتُهُ، ولنا في الإقليم أمثلة عما يُمكن أن يستشعره الحاكم، فهو إنسان أولاً، وبالتالي ما يؤلم أمَّتَهُ لا بدَّ يؤلمه.
أحمد الجارالله