الشعور المسبق بالثورة

د.جان معكرون

كلمات ليست كالكلمات، تجرأت على إطلاقها قبيل الثورة، او الانتفاضة، خلال الاسبوع الأَول من شهر اكتوبر 2019.
كلمات جريئة تندرج في إطار الديبلوماسية الجريئة، وإنَّ من أهمّ صفات الديبلوماسي نذكر الامانة( honesty) والصدق( truthfulness)، وفقاً للسياسي والمؤرخ البريطاني المعروف هارولد نيكولسون الذي أدرج هاتين الصفتين في خانة خصائص الديبلوماسي.
والواضح ان الامانة والصدق يرتكزان أساساً على قول الحقيقة التي تستلزم الجرأة لكي تخرج إلى العلن. إِن الحقيقة هي في الجوهر انعكاس للواقع والظروف الحياتية كما هي وبكل موضوعية.
كانت لي فرصة فريدة خلال مهمتي الديبلوماسية في الكويت ان استقبل وزيرين، الاول ينتمي الى التيار الوطني الحر، في حين ينتمي الثاني الى القوات اللبنانية، وذلك خلال الاسبوع الاول من شهر اكتوبر 2019.
و خلال مأدبة غذاء أقمتها لكل منهما وفي مناسبتين منفصلتين في حضور مجموعة من الجالية اللبنانية تياسرت لي لدى القائي كلمة ترحيبية أَن اقول الحقيقة.
اعتقد البعض انه”ليس كل الحق جيدا ان يقال” .
“Toute vérité n’est pas bonne à dire ” Pierre Augustin Caron
صحيح ان الحقيقة تجرح لكنها تبني وفقاً لبنجامين فرانكلين.
“That which hurts, also instructs”.
وحده الجاهل لا يتعلم من الحقيقة لأَنه يرفضها، في حين أَنَّ الراقي يقبلها بتواضع ويتعلم منها. وهكذا يتحصل لنا انه يمكن للديبلوماسي أن يقول الحقيقة، لكن بطريقة مقبولة وَفقاً للعبارة الماثورة التالية:
“Diplomacy is to do and say the nastiest thing in the nicest way”
اي أَن الديبلوماسية هي ان تعمل وان تقول ما هو خطير او مستهجن بالطريقة الاجمل. في هذه الروحية الديبلوماسية أَورد في ما يلي مضمون ما قلته في الكلمتين الترحيبيتين بالوزيرين المذكورين والضيوف الكرام:
يعيش المواطن اللبناني في أَزمة متواصلة لأنه فقد ثقته بالحكام، وقد سئم الاستماع الى تصاريح السياسيين المملّة والمِزاجية.
إذ كلما تصاعد النزاع بين الاطراف السياسية من خلال مواقفهم وتغريداتهم توسعت الهوة، ليس فقط بين المواطنين والحكام، بل أيضا بين المواطنين بمختلف فئاتهم. هل ان الاحزاب السياسية تخدم الوطن وتسعى الى إعلاء شأنه، أم أنها تكتفي بخدمة مصالحها الحزبية؟
ان المواطن والمغترب يشككان احياناً في مدى التزام الاحزاب بالمصلحة الوطنية او بمحبتهم لوطنهم.”ومن لا يحب وطنه لا يمكنه ان يحب احداً”، كما يشدد المؤرخ البريطاني توماس كارليلي. وانسجاماً مع هذه المقولة المعبرة استطيع القول إِن من يحب وطنه يوظف حزبه من اجل خدمة الوطن، وليس من اجل خدمة الحزب، اذ ما الفائدة اذا ربح المواطن حزبه وخسر وطنه، فعلى الحزب ان يكون في خدمة الوطن وليس العكس.
“إِن وطني قبل حزب” كلمات راقيه يرددها أمامي ابني ابن العشرين عاما، وانا أؤيده حتما.
الحق يقال والمنطق يقضي ان من يفضّل حزبه على وطنه ويسّخر وطنه لخدمة حزبه سرعان ما يخسر الاثنين.
لقد وهبنا الله وطنا جميلا، وشعبا عظيما، لكننا لم نوفّق بحكام عظماء، والدليل ما وصلنا اليه اليوم من بطالة وانهيار العملة الوطنية، وهروب الاموال، وهجرة الشباب، وازمات الكهرباء والنفايات وتشويه البيئة.
ذكرت مرةً في تقريري الى وزارة الخارجية والمغتربين ما قاله لي العديد من المغتربين بانه”اذا لم تنجح الحكومات في حل مشكلة الكهرباء والنّفايات فبماذا تنجح”؟
لم تبرهن الاحزاب انها صنعت فرقاً للوطن لانها لم تفرز حكاماً رفيعي المستوى أي رجال دولة، بل افرزت فقط رجال سياسة، والفرق واضح لان رجل الدولة يمتاز بأنه صاحب رسالة وهي تأمين الحاجات الاساسية للمواطن والسعي الى تأمين رفاهيته والبحث عن رؤية كفيلة بضمان مستقبل الاجيال القادمة. في حين يهتم رجل السياسة فقط بالسعي الى اعادة انتخابه طمعاً بالجاه والامتيازات.
لم تصنع الاحزاب سلاماً بين المواطنين ولم تبتكر رؤية مستقبلية ولم تكن مثالاً اعلى في التقارب بين ابناء الوطن الواحد، بل كانت وسيلة تباعد و فراق بين اللبنانيين.
ان معيار او مقياس عظمة الحكام تقاس في مدى مقدرتهم على اتخاذ موقف او قرار حاسم يخدم المصلحة العامة وفي مدى تفاني الحكام في خدمه الشعب. ان الحاكم العظيم هو الذي يترسَّل بمعنى ان يتخلّى عن رفاهيته الشخصية في سبيل المصلحة العامة، وهو الذي يتقشف في نفقاته، الخاصة والعامة، ويحرص على المال العام. وهنا يطيب لي ان ألقي الضوء على هذه المقولة المعبّرة للكاتب الاميركي جون ماكسويل التي وصف فيها من يتولَّى مسؤولية عامة بانه صاحب رسالة بمعنى ان يتخلى عن راحته الشخصية من اجل تأمين حياة افضل للجميع.
“Being Missionary… is to say goodbye to your our comfort to make life better for others”.
واكملت قائلا، مع الاسف لم يتنبه الحكام الى ظاهرة خطيرة وهي الهوّة الكبيرة بين الغني والفقير والمشكلة الكبرى تكمن في ان الحاكم او الغني يظن انه اذا توافرت له حاجاته الاساسية والعيش الرغيد فهي ايضاً متوافرة للجميع.
وفي هذا الاطار كان لا بدّ لي من الاشارة الى مقولة ذهبية لجون كندي:
“If a free society cannot help the many who are poor, it cannot save the few who are rich”.
اي انه اذا لم يتمكن المجتمع الحر من مساعدة العديد الذين هم فقراء فإنه لن يتمكن من الحفاظ عن الاقلية الغنية. انها حقًّا فكرة متقدمة جدًّا ومعبرة لأن الفقر هو السبب الرئيس الذي يهدد الأمن المجتمعي، والذي يؤدي الى الفوضى والصراع بين الغني والفقير، وبين الفقراء والحكَّام، لذلك فعلى الحاكم ان يسعى جاهداً الى تضييق الهوّة بين مختلف طبقات الشعب عبر تأمين الضمانات الاجتماعية و حاجاتهم الاساسية.
إن انهيار العملة الوطنية دليل فشل الحكام وفشل الأحزاب وأن على الحكام المحبين لأوطانهم ان يتخذوا مواقف جريئة تحدث صدمة ايجابية بهدف كسب ثقة الرأي العام. وان الشعب كان يتوقع من الحاكم ان يجمع كبار المسؤولين وكبار الاغنياء، ويتمنى عليهم ان يعيدوا اموالهم الى لبنان، وعلى الحكام ان يكونوا قدوة، بمعنى ان يكونوا السباقين في اتّخاذ القرار الحاسم في اعادة اموالهم الشخصية الى لبنان، كما عليهم ان يتذكروا ان الظروف الاستثنائية تستلزم قرارات استثنائية.
ويتوجب عليهم ايضا ان يبادروا الى استنفار جميع قدرات القطاع العام والخاص بهدف تبني مواقف جديّة وغير تقليدية لكسب ثقة الشعب، لأنه عندما يفقد الشعب الثقة بالحكام فعلى هؤلاء ان يخافوا من غضبه لأنهم فقدوا الشرعية السيادية، فالشعب يملك وحده السيادة.
ان الثقة بالحكام هي التي تبني اساس الثقة بالوطن، لكن ما هي شروط بناء الثقة بالحكام؟
لا شيء يؤكد ويثبت ان كل من ينتخبه الشعب هو صالح للحكم وللتشريع نيابة عن الشعب.
فالقضية قضية حظّ لأننا قد نوفّق نحن كناخبين بنواب صالحين كفوئين وقد لا نوفّق. إنَّ المنتخَبَ من قبل الشعب ليس بالضرورة قادرًا على أَداء الحكم الجيد وعلى الالتزام بتطبيق القانون.
كذلك تكمن العبرة في إيصال حكام ملتزمين بالقيم والمبادئ مثل النزاهة والصدق والتواضع والعدل وايضًا قادرين على الإبداع والابتكار.
فمن لم يقرأ افلاطون وارسطو ومونتسكيو وروسو وابن خلدون والفارابي، ومن لم يتفاعل مع افكار الفلاسفة العرب والأوروبيين والأميركيين وغيرهم، ومن لم يتمعّن في الخطب التي غيرّت العالم فهو لا يصلح للخدمة العامة :
“Speeches that changed the world. Compiled by owen Collins”.
وختمت كلامي في هذين اللقاءين بالأفكار الآتية:
بعد ان كان لبنان سويسرا الشرق أصبح الآن شحاذاً من الشرق والغرب. طوبى للحاكم الّذي يلبي حاجات شعبه وطموحاته قبل ان يغضب الشعب وينزل الى الشارع.
في هذه الظروف التشاؤمية، قلت لولا ايماننا بالرب لكنّا اشقى الناس في لبنان.
لا بد لي من الإشارة الى ان في نهاية كلمتي الترحيبية والتي حملت رسائل عدة دعتني زوجتي الى تخفيف نبرة كلامي لأنها كانت عالية الوتيرة من حيث الانتقاد السياسي، فصاح أحد الحاضرين، وهو الكاتب، الصحافي، الصديق السيد حمزة عليان”اتمنى عليك ان تستمر في التصعيد الكلامي لأننا جميعًا نؤيدك”. وبعد اسبوعين على هاتين المناسبتين اندلعت الثورة او الانتفاضة في 17 اكتوبر فاتصل بي العديد من الذين شارك في هذين اللقاءين سائلين:” كيف استشعرت بداية الثورة …”
كلمة حق تقال إِن الوزيرين اللذين تكرّما في تلبية دعوتي قد تقبّلا بهدوء وجدّية ورحابة صدر كلمتي واني أُقَدَّرُ عاليًا حضورهما. وها انا في لبنان وبعد مرور شهر على تقاعدي شاهدت بحزن كبير كارثة الانفجار المفجع في مرفأ بيروت، وقلت في نفسي انها مظهر من مظاهر فشل من تولى المسؤولية العامة، وتذكرت هذه العبارة الشهيرة التي طالما كررّتها في تقاريري الديبلوماسية والتي تعود للعالم كوبرنيكوس” توجد اسباب اربعة لانحطاط الممالك والجمهوريات وهي: الموت الجَماعي، عقم الارض، الفتنة، سقوط قيمة العملة الوطنية.”
وبعد التأمل في هذه المقولة لاحظنا انها وبكل أسف تنطبق على واقعنا الأليم، فالعملة الوطنية قد انهارت، والفتنة جزء من تاريخنا، وها نحن نشهد على الموت الجَماعي بنتيجة انفجار مرفأ بيروت، فلم يبق لنا سوى هذه الأرض، آملين أَلّا تصبح عقيمة.

سفير متقاعد، استاذ محاضر
في الجامعة اللبنانية وجامعة الحكمة

Comments (0)
Add Comment