كتب ـ دكتور علاء عبد الحميد:
في مرحلة هي من أحرج المراحل التاريخية للدول العربية وبعد استفحال الصراعات الداخلية وتحول الكثير من الدول العربية إلى دول فاشلة عاجزة عن تلبية الاحتياجات الأولية لمواطنيها، تستعيد الشعوب العربية فكرة القومية العربية التي كانت تراودها وذلك من خلال تكوين دولة عربية واحدة كبيرة و قوية تستوعب كل أطياف العرب، لاسيما أن الكيان الصهيوني حارب مرارا وتكرارا فكرة القومية العربية انطلاقاً من “مبدأ فرق تسد”.
إن فكرة القومية العربية ليست شيئاً مجرداً، بل نشأت وتطورت عبر مراحل زمنية مختلفة، شتان مثلا بين الداعين للقومية العربية في أوائل القرن العشرين، وكانوا في الغالب مسيحيين من بلاد الشام، وكانت تركيا هي خصمهم الأول، والتحرر منها هو الأولوية بالنسبة لهم، ثم تطورت الفكرة في عهد الزعيم عبدالناصر الذي كان أيقونة القومية لتصبح شعاراتها ضد إسرائيل في الخمسينات فصاعداً، ثم، في تطورها الأخير في مصر، لتصبح مع الدولة المصرية ضد مشروعات الهيمنة التركية والايرانية.
بداية، يعلم الجميع أنه لم يكن ممكناً لفكرة القومية العربية أن تأخذ دفعة من دون كاريزما عبدالناصر، البطل والزعيم الملهم الذي حارب أطماع الإمبريالية وأسس نوعاً، قد يكون مخففاً، ولكنه موجود، من العدالة الاجتماعية، كما أسس دولة مصرية قوامها الجيش. لسبب ما، ظل هذا المنجز الأخير هو المنجز الأكثر إلهاماً للقوميين والناصريين في مصر، لدرجة أنه يتم الآن النظر إلى سائر الشعارات الناصرية، كمحاربة إسرائيل والعدالة الاجتماعية، وغيرها، بوصفها مجرد وصفة مثالية.
أما تأسيس منظومة الدولة العميقة البيروقراطية، وتأسيس الجيش “الوطني”، فقد بدا في الخطاب القومي المصري هو الإنجاز العملي والحقيقي والملموس لثورة 1952.
ما زال الحلم العربي يمثل ركيزة لجميع الشعوب المقهورة والدول المغتصبة ولأن اتحاد الدول العربية يشكل خطرا كبيرا على أمن اسرائيل وربما وجودها، إذ يقول ناحوم غولدمن رئيس الرابطة اليهودية في احد مؤتمراته عام 1969: “لضمان بقاء دولة اسرائيل في الشرق الأوسط يجب خلق دويلة علوية في سورية ودويلة كردية في العراق ودويلة مارونية في لبنان”.
ولو تعمقنا بما قاله أنذاك، لوجدنا ان ما يخطط له بنو صهيون منذ عشرات السنين بدا يتحقق حاليا وبكل تفاصيله وما سلسلة التطبيع الأخيرة إلا صفحة من صفحات هذا المخطط، فها هو الوطن العربي مشرذم الى دويلات و محاور إقليمية ويطوي بين ثناياه مذاهب وطوائف وعرقيات متناحرة وهي بمثابة قنابل موقوته يفجرها الغرب وقتما يشاء.
ولأن العرب في حالة انتكاسة وتشرذم، عادت فكرة القومية العربية تلقي بظلالها من جديد ولمَ لا؟ طالما تجمعنا ثقافة مشتركة ولغة واحدة ناهيك عن تعاضد التاريخ، والجغرافيا.
القومية العربية
وفي المقابل يرى البعض الآخر أن فكرة القومية عفى عليها الزمن وهناك منظمات إقليمية كجامعة الدول العربية أو منظمة الوحدة الاسلامية التي يمكن أن تشكل بدائل جديدة لفكرة القومية العربية إضافة إلى أن هناك شرق أوسط جديد تحت التشكيل يضم إسرائيل وباكستان ودول القوقاز.
وفي هذا السياق يري البعض أن جامعة الدول العربية مصابة بالترهل والضعف ولا تلبي متطلبات الشعوب العربية وميثاقها لا يواكب التطورات الدولية، وكذلك منظمة الوحدة الاسلامية لا يمكن أن تكون بديلا للجامعة العربية التي نشأت عام 1945 أو تشكل مشروعاً موازياً للقومية العربية في توحيد 22 عاصمة عربية.
ورغم الأزمات الساخنة التي تمر بها المنطقة العربية التي تتطلب التعامل معها بروح الفريق الواحد، والابتعاد عن المشاحنات والتراشقات والتجاذبات المحورية التي أفرزتها الأزمات العربية وكادت تعصف بمنظمة الجامعة العربية التي تمثل عنوانا مهما للعمل العربي المشترك، حتى لو أن مردوداته وقراراته الإيجابية هزيلة على المستوى المطلوب، لكنها تظل الأمل الوحيد لإعادة إحياء و تجسيد فكرة القومية العربية التي ازدهرت و تطورت في عهد الزعيم جمال عبد الناصر لأسباب عدة، منها ما يتعلق بطبيعة التطور السياسي والاجتماعي للعرب، وبدايات شعورهم بالانتماء إلى حضارة العرب، خصوصًا في ظل الاستبداد العثماني وضبابية المستقبل السياسي الذي ينتظرهم.
التزامن بين ظهور القومية العربية والقومية الأوروبية التي أفرزت الاتحاد الأوروبي برغم إختلاف الثقافة واللغة ناهيك عن الحروب التي خاضتها الدول الاوربية ضد بعضها، أي أن ظهورهما في كلتا المنطقتين جاء في عصر واحد نتيجة ظهور الأفكار القومية، وليس بسبب التفاعل بين الثقافتين أو التأثر المباشر بينهما، كما أن الدول العربية تشكل أمة عريقة مضى على تكونها زمن طويل أقدم من التكوين الحضاري للدول الأوربية، فالعرب كانوا من أكثر الشعوب اهتمامًا بالخصائص الفريدة التي تميزهم عن غيرهم، ومن هنا، فإن نشوء القومية العربية كان استجابة لحاجة سكان الشرق العربي ووعيهم، دون الحاجة لـ”استيراد” فكر الأقليات التي تمزق أوروبا، لاسيما أن النهضة التي ضمنت حياة كريمة للجماعة نبعت من دور مشترك للعروبة والإسلام خلال العصور الماضية في حياة العرب.
منظمة الوحدة الاسلامية
تعتبر منظمة الوحدة الإسلامية هي ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة، وتضم في عضويتها سبعا وخمسين “57” دولة عضوا موزعة على أربع قارات، تعتبر المنظمة الصوت الجامع للعالم الإسلامي الذي يضمن ويحمي مصالحه في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هذه المنظمة لديها مؤسسات تنفذ برامجها حيث إن المقر الرئيسي في جدة في المملكة العربية السعودية وقد انضمت كل من الجمهورية الاسلاميه “إيران” وتركيا إلى المنظمة عام 1969 وعلى الرغم من بروزها كمنظمة إقليمية فاعلة إلا إنها لا تعتبر بديلا لفكرة القومية العربية و ذلك للأسباب التالية:
1- ان مواقف دول منظمة الوحدة الاسلامية من الازمات العربية توضح ضعفا متعمدا في طبيعة الدور المنوط بالمنظمة الدولية بما يكفل لجهاز مجلس الامن قيادة المنظمة واتخاذ ما يتراءى للدول الكبرى من قرارات تخدم مصالحها وتنأى عن انقاذ الارواح التي تزهق على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه ساسة وشعوبا.
2- بمقارنة ممارسات منظمة الوحدة الاسلامية للصراع العربي- الاسرائيلي وباقي الازمات الدولية نجد ان هناك تباينا كبيرا حينما تكون هناك مصالح عليا لإحدى الدول الكبرى بما يستدعي التعامل بجدية مع تلك الازمات.
3-اهمية مراجعة النظام الاساسي لمنظمة الوحدة الاسلامية في ضوء التغيرات التي طرأت على النظام العالمي الدولي، بعد الحرب الباردة وتغير الظروف التي نشأت فيها هذه المنظمة وكغيرها من المنظمات والمؤسسات التي شهدت تطورا كبيرا على المستوى المؤسسي والاجرائي فان هذه المنظمة العالمية باتت في امس الحاجة الى تغيير كبير على اطارها المؤسسي بما يحقق المساواة والعدالة بين كل الدول ويكفل لجميع الاصوات خصوصا اصوات العالم الثالث الحيادية والنزاهة وان يلتزم مجلس الامن الدولي بهذه القرارات بحيث تلبي مطالب دول العالم كافة وليس فقط مصالح الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الامن.
4- ان القيود والمعوقات التي تعوق عمل جهاز الامانة العامة لمنظمة الوحدة الاسلامية بما فيها طبيعة النظام الدولي السائد، منحت الفرصة لهذه المنظمة في فترة الحرب الباردة ان تلعب دورا مهما في القضاء على الاستعمار وتعزيز التعاون الدولي بين الدول ونحن في أمس الحاجة الى تفعيل هذا الدور بعد ان تلاشى بسبب هيمنة الدول ذات الثقل في المنظمة على قرارات وتوصيات لمنظمة.
الأمم المتحدة
اعتبرت الدول دائمة العضوية ان الامم المتحدة اداة لتنفيذ سياساتها، وخدمة مصالحها الستراتيجية، ولقد سعى الامناء العامون على التوالي كل حسب قدراته وخبراته للتوفيق بين مهامهم واختصاصاتهم الواردة في الميثاق من ناحية وبين رغبات الدول العظمى من ناحية اخرى التي اعطت نفسها كل الصلاحيات التي تضمن لها الهيمنة على المنظمة بالكامل ومصيرها فيما بعد، كما أن كل المبادرات التي طرحت لإصلاح الأمم المتحدة لم تلق النجاح المأمول حتى نصل بهذه المنظمة الى دورها الذي تتمناه هذه الدول وذلك ما يضفي مزيدا من التشاؤم على امكانية اصلاح هذه المنظمة وتحبط الافكار المطروحة لتعديل هياكلها واضفاء توازن عليها بالإضافة الى كونها تدعم الآراء التي باتت تقول بأهمية ايجاد كيان مؤسسي جديد يتوافق مع طبيعة النظام الدولي الذي نحياه بكل متغيراته ومستجداته.
الأزمات الحالية
توضح الازمات الراهنة ان دور الامم المتحدة لم يكن بالفاعلية التي توقعها المجتمع الدولي كرد فعل على هذه الازمات وكذا توقعتها الدولة صاحبة الازمة ذاتها وهو ما يخيب امال شعوب العالم الثالث في امكانية اللجوء لهذه المنظمة في حال وقوع نزاع يهدد السلم والامن لحياة شعوبها.
ان أغلبية تحركات المنظمة في الازمات العربية اثبتت بطئا اما متعمدا او غير متعمد لكنه في كل الاحوال كان تحركا في غير الوقت المناسب بحيث استفحلت الازمات التي ظهرت ولم تجد كل الادوات الاستباقية وغير الاستباقية التي عرضتها المنظمة بقيادة دولها وهو ما يطرح تساؤلا مهماً عن مدى اهمية هذا الكيان ودوره في علاج الازمات التي يمر بها المجتمع العربي سواء في سورية والعراق وليبيا واليمن.
ان مشاركة هموم دول العالم الثالث اصبحت حاجة ملحة وواجبا أكثر من كونها امرا من امور العلاقات الدولية فالإرهاب الذي بات يهدد الكوكب الارض ليس له ارض ولا حدود، ولابد من المشاركة الاممية في هذه الازمات حتى يستطيع الجميع العيش على هذا الكوكب.
الظروف الراهنة التي تمر بها الدول العربية من صراعات داخلية على النظم القائمة وانتشار ظاهرة الدول الفاشلة وازدياد معدلات العنف والارهاب وانتقال الصراعات من دولة لأخرى سيلقي بتبعاته بلا شك على نظرة هذه المجتمعات للدول الغربية التي لم تتحرك لإنقاذها في اوقاتها الصعبة في حين ان مصالحها شكلت خطأ لا يمكن تجاوزه وان تجاوزه يعني استخدام القوة العسكرية او التلويح بها.
تبقي جامعة الدول العربية هي الأمل الباقي لتوحيد العرب لأن قوتنا في وحدتنا وضعفنا في تفرقنا! خاصة أن جامعة الدول العربية هي أوّل تكتّل إقليمي في العالم، تأسّس في عام 1945، أي قبل “الاتحاد الأوروبي” الذي نشأ في عام 1951 اتحاداً اقتصادياً وفي العام 1992 اتحاداً سياسياً، رغم خروج بريطانيا منه اليوم والأصوات الأوروبية المعترضة عليه، مازال يشكّل كياناً سياسياً واقتصادياً له تأثيره الكبير على المسرح العالمي.
وفي السياق نفسه نجد أن دول أميركا الجنوبية تكتلت في اتحاد اقتصادي كما إتحدت العديد من الدول الأفريقية في تكتلات اقتصادية على غرار الكوميسا في غرب أفريقيا. كل هذه الاتحادات نجحت في خلق تكتلات إقليمية اقتصادية أو سياسية إقليمية أنهت الصراعات بين الدول المتحاربة، وشكّلت كياناً يدافع عن المصالح القومية المشتركة ويحمي الدول الأعضاء من الذوبان في ظاهرة العولمة السياسية والاقتصادية والإعلامية.
أستاذ العلوم السياسية بالأكاديمية العربية