القواعد التركية في الخارج… توسع عسكري بحجة محاربة الإرهاب تبدأ من قطر وتمر في العراق وسورية وتصل إلى الصومال والقرن الإفريقي
منذ وصول الزعيم رجب طيب أردوغان إلى الحكم عام 2002، شهدت تركيا تغييرات على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومن أبرزها رؤية تركيا لدورها الإقليمي على ضوء ما تشهده المنطقة المحيطة مباشرة بها من اصطفافات جديدة، وتوترات وصراعات ومواجهات في أكثر من منطقة، ترى أنها تمثل مصدر خطر عليها وتمثل تهديداً لمصالحها الآنية وعلى المدى البعيد.
حتى قبل سنوات قليلة لم تكن تركيا تملك قواعد عسكرية في الخارج، ما عدا الوجود العسكري في شمال قبرص الذي يعود لعام 1974، عندما أرسلت آلاف الجنود إلى الجزيرة بحجة حماية الأقلية التركية هناك، وهي الخطوة التي ألقت بظلالها لسنوات عدة على علاقاتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية التي لم تعترف بجمهورية شمال قبرص المعلنة من جانب واحد.
ثمة من يرى ان احساس الرئيس أردوغان المتزايد بالتهديد من قبل السعودية والإمارات على الصعيد الإقليمي، والمحاولة الانقلابية الفاشلة ضده عام 2016 عاملان أساسيان وراء السعي التركي المحموم لإقامة قواعد في قطر والصومال وفي غيرها، فيما قواعد تركيا في سورية والعراق لها دور وظيفي محدد، وهو مرتبط فقط بمنع أكراد سورية من تحقيق أي نوع من الاستقلال أو الحكم الذاتي، وهذا موقف الدولة منذ ولادة الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك قبل نحو قرن، كما تهدف هذه القواعد إلى التصدي لنشاط عناصر حزب العمال الكردستاني، سواء في العراق أو سورية، ونقل الحرب إلى هناك بدلاً من مواجهتهم في الداخل.
ويمكن لهذه القواعد أن تقوم بوظيفة ردع القوى والأحزاب الكردية عن التفكير في الانفصال عن سورية أو العراق، وهو ما تجلى خلال الاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان العراق عام 2017، إذ سارعت أنقرة إلى التعاون مع بغداد وفرضت حصاراً برياً وجوياً على الإقليم.
أقامت تركيا العديد من القواعد العسكرية في الخارج في كل من الشرق الأوسط وأفريقيا خلال السنوات الأخيرة، بحيث يمكنها نشر أسلحة جوية وبرية وبحرية كبيرة في مناطق تعتبرها مهمة لحماية مصالحها الستراتيجية، وكذلك مواجهة منافسيها الإقليميين، وفي المقام الأول السعودية والإمارات.
وتمتلك تركيا قواعد عسكرية في كل من الصومال وقطر وقبرص، وكانت بصدد إقامة قاعدة بحرية في جزيرة سواكن السودانية.
لتركيا وجود عسكري غير معلن في ليبيا، وهي تقدم المساعدة العسكرية لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا التي تخوض صراعا عسكريا ضد قوات الجنرال خليفة حفتر، وقد أرسلت عدداً من حاملات الجنود التي تنتجها إلى قوات حكومة طرابلس، ورغم أن هذه الإمدادات لن تغير موازين القوة لصالح حكومة طرابلس على الأرض، لكنها رسالة إلى مصر والامارات والسعودية مفادها أنها لن تترك هذه الدول تنفرد بصياغة مستقبل ليبيا، والقضاء على أي دور أو نفوذ تركي في ليبيا، كما جرى الأمر في مصر بعد الاطاحة بحكم “الاخوان” عام 2013، فيما أعلن مسؤول حكومي ليبي أن تركيا نشرت عدداً من الطائرات بلا طيار في ليبيا لمساعدة حكومة طرابلس التي تفتقر إلى أي قوة جوية، وأعلنت قوات حفتر إسقاط أربع منها خلال الأشهر القليلة الماضية.
هذه الطائرات، من إنتاج تركيا، يحمل بعضها ذخائر وأسلحة إلى جانب مهمات الاستطلاع والمراقبة على جبهات القتال مثل” TB2″ القادرة على التحليق لمدة 24 ساعة متواصلة وعلى ارتفاع تسعة آلاف متر، كذلك تمتلك تركيا قاعدة عسكرية في قطر منذ سنوات عدة حيث بات لها موطئ قدم في الخليج، لكن الوجود العسكري تعزز ونما عدداً وعدة في أعقاب فرض السعودية والإمارات حصارا على قطر في صيف عام 2017.
وأعلنت تركيا اخيرا أنها بصدد افتتاح قاعدة جديدة لها، وسيتم تدشينها قريبا إضافة إلى قاعدة “طارق بن زياد” الحالية، ومن المتوقع أن يزداد عدد الجنود الأتراك في قطر بشكل كبير.
أنفقت تركيا 39 مليون دولار اميركي على القاعدة التي تم افتتاحها عام 2016 وهي قادرة على استقبال ثلاثة آلاف جندي، إضافة إلى قوات بحرية وجوية وقوات “كوماندوس”. ومع تدشين القاعدة الجديدة سيكون بمقدور تركيا نشر مزيد من الجنود والعتاد والأسلحة في قطر. وقال وزير الدفاع عام 2018 إن:” القاعدة التركية في قطر ستؤدي دورأ في الحفاظ على الاستقرار في منطقة الخليج وغيرها من المناطق”. لكن وسائل الإعلام التركية كشفت أكثر من ذلك. فقد كتبت الصحافية خاندا فرات في صحيفة “حريات” في 14 اغسطس الجاري في إطار تحليل خبر قرب افتتاح القاعدة الجديدة في قطر” إن الدول الخليجية وبخاصة السعودية غير مرتاحة للتعاون القطري-التركي، ورغم ذلك تسعى تركيا إلى إقامة بنية أمنية ومنطقة نفوذ سياسي وعسكري دائم”.
بعد عام ونصف العام من افتتاح قاعدتها في قطر أقامت تركيا قاعدة عسكرية كبيرة في العاصمة الصومالية مقديشو لتدريب الجنود، وبلغت نفقات إقامتها نحو 50 مليون دولار وفق بعض المصادر، ويمكنها أن تأوي نحو 1500 جندي، وتقديم التدريب لهم في وقت واحد لمساعدة الحكومة الصومالية في التصدي لجماعة الشباب الاسلامية المتطرفة، وتبلغ مساحة القاعدة أربعة كيلومترات مربعة وهي قادرة على استقبال قطع بحرية وطائرات عسكرية إلى جانب قوات كوماندوسن كما تقدم السلاح والعتاد للقوات التي تدربها، وترافق الوجود العسكري التركي في الصومال مع ببناء مدارس وطرق ومستشفيات، كما قدمت قطر مئات الملايين من الدولارات للحكومة الصومالية لتمويل بناء طريقين أساسيين في البلاد.
وما يلفت الأنظار أن النشاط التركي في الصومال تزامن مع ترسيخ الامارات نفوذها في الاقليمين الصوماليين اللذين انفصلا عن الصومال، وهما أرض البونت وأرض الصومال. فقد استثمرت الامارات 440 مليون دولار في ميناء بربرة في أرض الصومال، و336 مليون دولار في ميناء بساسو في أرض البونت.
لكن طموحات تركيا في ترسيخ وجودها العسكري في القرن الأفريقي تبقى تحت رحمة الجانب المصري الذي يتحكم بقناة السويس، ويمكنه منع السفن والبواخر التركية من المرور عبر القناة في حال تحول التنافس بين البلدين إلى مواجهة.
تحتفظ تركيا بنحو 30 ألف جندي في جمهورية شمال قبرص، كما ترافق القطع البحرية التركية الحربية سفن التنقيب التركية عن الغاز والنفط التي تنشط في المياه الاقليمية لقبرص، رغم معارضة المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي، باعتبار أن هذه الإجراءات ستبدد الآمال في التوصل إلى حل سياسي لأزمة قبرص وتوحيد الجزيرة المقسمة، كما نشرت وسائل إعلام مقربة من الحكومة التركية إن أنقرة تنوي بناء قاعدة بحرية في الجزء الذي تسيطر عليه من الجزيرة، فهي تشعر بالقلق من التنسيق المتزايد بين قبرص واليونان ومصر والذي يشمل مجال الطاقة، وقد انضمت اسرائيل اخيرا إلى هذا الحلف عندما اتفقت مع مصر على نقل الغاز إلى القارة الأوروبية.
وفي حال عثور تركيا على كميات تجارية من النفط أو الغاز في الحيز البحري الذي تنقب فيه فإن ذلك سيضعها في موقف أقوى، ويرجح أن تصبح أقل استعداداً لتقديم تنازلات للطرف القبرصي في أي مفاوضات مستقبلية.
واجهت تركيا نكسة كبيرة في مساعيها لتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي عقب الاطاحة بحكم عمر البشيرفي السودان، إذ أخفقت في قراءة ما كان يجري على الأرض عقب اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام السابق أوائل العام الجاري، وأساءت تقدير مدى هشاشته وتخلي الدائرة المحيطة به عنه.
بينما ادت الإمارات والسعودية دوراً أساسياً في رسم مسار الأحداث التي تلت الاطاحة بالبشير إن لم يكن قبل ذلك بوقت طويل، ونجحت في ضمان إبعاد القوى الإسلامية عن أي دور خلال المرحلة الانتقالية.
وذكرت بعض الأنباء أن السلطات السودانية قد طلبت من الجانب التركي وقف العمل في جزيرة سواكن بشكل كامل، وكان يتضمن إقامة قاعدة بحرية فيها لأغراض عسكرية ومدنية وغيرها من الأعمال وفق الاتفاق الموقع بين البلدين عام 2017، كما أفادت بعض التقارير الصحافية عن وصول قوات سودانية.
مع تصاعد النشاط العسكري لحزب العمال الكردستاني في منتصف ثمانينات القرن الماضي وحتى خروج قيادة الحزب من سورية انشغلت تركيا بهذا الصراع الدامي داخل حدودها غالبا، رغم فترات الهدوء القليلة التي شهدها من حين إلى آخر.
وكانت القوات التركية تتوغل في اقليم كردستان العراق في حملات مطاردة لعناصر الحزب حتى خلال عهد الرئيس صدام حسين بموجب إتفاق بين البلدين، دون أن تقيم قواعد ثابتة في الإقليم، لكن الوضع اختلف منذ سقوط حكم البعث وإقامة حزب العمال الكردستاني قواعد ومقرات ثابتة في جبال قنديل الواقعة في مثلث الحدود بين العراق وإيران وتركيا، وقد أقر رئيس وزراء تركيا عام 2018 خلال مؤتمر صحافي مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي بوجود 11 قاعدة عسكرية تركية داخل العراق، وأضاف:” أن تركيا تنوي زيادة عدد قواتها المتمركزة في هذه القواعد”، رغم احتجاج الحكومة العراقية من حين إلى آخر.
لكن العدد الحقيقي لهذه القواعد يصل إلى أكثر من 15، بعضها يقع على عمق 30 كيلومترا داخل إقليم كردستان العراق.
ومن بين هذه القواعد قاعدة بعشيقة الواقعة على أطراف مدينة الموصل، وهي تبعد أكثر من 140 كيلومتراً عن الحدود التركية- العراقية، وتضم نحو ألفي جندي وعشرات الدبابات ومدافع بعيدة المدى، رغم أن المنطقة لا تعتبر منطقة نشاط لحزب العمال الكردستاني، كما أن هناك عدداً من المقرات الأمنية يتمركز فيها عناصر الاستخبارات التركية دون أن تكشف عنها.
أما في سورية فقد أقامت تركيا 12 نقطة مراقبة داخل محافظات إدلب وحماة وحلب بالاتفاق مع الجانب الروسي، بهدف إقامة ما يعرف بمنطقة خفض التصعيد، لكن ذلك ظل حبراً على ورق، فالمعارك لم تتوقف فيها بين قوات المعارضة والقوات السورية المدعومة بالطيران الروسي.
وعززت تركيا هذه النقاط التي تحولت قواعد عسكرية حقيقية في عمق سورية، مثل تلك الواقعة قرب بلدة مورك على بعد 88 كيلومترا عن الحدود التركية، كما تحتفظ تركيا بعدد من القواعد العسكرية في مناطق الباب وجرابلس واعزاز وعفرين، وهي مناطق واقعة على الحدود التركية- السورية، وتسيطر عليها تركيا وتديرها مع قوى المعارضة.
(المصدر: بي بي سي)