اليوم العالمي للغة العربية… الوعاء الذي يجمعنا وقفة
عبدالنبي الشعلة
حددت منظمة الأمم المتحدة تاريخ اليوم؛ 18 ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة العربية، فأصبح العالم كله يشاركنا الاحتفاء والاحتفال بلغتنا العربية، لغة الضاد الجميلة، وهو حدث يذكرنا بأنشودة كنا نرددها في المدرسة، ونحن صبية صغار عندما كنا لا نزال نحلم؛ الأنشودة تتغنى بوحدة الأمة العربية فتقول: بلاد العرب أوطاني…من الشام لبغدانِ، ومن نجد إلى يمن.. إلى مصر فتطوان، فلا حد يباعدنا… ولا دين يفرقنا، لسان الضاد يجمعنا… بغسان وعدنان؛ إلى آخر القصيدة أو الأنشودة التي لم يصمد منها أمام الحقيقة إلا سطر واحد فقط وهو المتعلق بلسان الضاد الذي يجمعنا.
وبالفعل لا يوجد شيءٍ اليوم يبرر ادعاءنا بوجود الأمة العربية إلا اللغة العربية، ولم يبق شيء يجمعنا نحن العرب إلا هذه اللغة، فأهواء وتوجهات وأهداف كل دولة من دولنا تختلف عن الأخرى، وفي كثير من الأحيان تتنافر وتتناقض وتقود إلى الاقتتال فيما بينها، والكتلة الجغرافية الواحدة التي كانت تضمنا قسمناها ووزعناها وأقمنا بين أجزائها الحدود والأسوار والحواجز ونقاط المراقبة والتفتيش ما ساهم في إبعادنا عن بعضنا البعض، وأصبح العربي ممنوعا من دخول معظم الدول العربية أو التنقل بحرية بينها، عزاؤنا الوحيد حيال هذا الواقع المرير المؤلم هو أن اللغة العربية لا تحتاج إلى جواز سفر أو تأشيرة دخول؛ فهي قادرة على عبور الحدود واختراق الحواجز والقفز فوق الأسوار. ومن خلال أمواج الأثير ووسائل الإعلام والمنصات الرقمية صارت اللغة العربية تحقق الاتصال والتواصل بين شعوب الدول العربية وتتغلغل بين مجتمعاتها وفي صميم وجدانها.
اللغة العربية وحدها هي التي تجمعنا نحن العرب؛ وليس وحدة الدم أو العرق كما يدعي البعض، فالدم العربي لم يبق صافيًا نقيًا فقد تبخر وذاب وامتزج بدماء الشعوب الأخرى التي اختلطنا بها أو التي غزوناها وافتتحناها في مختلف الأمصار والقارات.
والدين الاسلامي الحنيف نزل على العرب، لكنه ليس حكرًا عليهم؛ على خلاف أبناء عمومتنا اليهود الذين يؤمنون بأن الديانة اليهودية حكرًا عليهم وحدهم بعد أن اختارهم الله واصطفاهم دون سواهم من الأمم والشعوب لحمل الرسالة السماوية، وبهذا الفكر فإنهم دمجوا مفهوم القومية بالديانة فأصبحت اليهودية تعني الهوية القومية التي تجمعهم، والاسلام ليس هوية منحها الله للعرب وحدهم بل على العكس هو رسالة وهوية يشترك فيها إلى جانب العرب مئات الملايين من البشر من مختلف الأجناس والأعراق، وقد أعطى الله العرب إلى جانب غيرهم من الشعوب والأمم مهمة نشرها بين البشر جميعا، وفي حقبة من حقب التاريخ أبلى الأتراك بلاء حسنًا في هذا المضمار.
فاللغة العربية تجمع العرب بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، ومن المفارقات المؤلمة أيضًا بهذا الصدد هي اننا جعلنا من الدين الاسلامي عاملا للتفرقة فيما بيننا عوضًا عن الجمع والوحدة، فلم تتوقف النزاعات والحروب العربية – العربية منذ 14 قرنًا، وكم من الدماء العربية سفكت باسم الإسلام بين مختلف مكوناته واتباعه؛ بينما بقيت اللغة العربية توحدنا ولم نسفك دماء بعضنا بعضًا من أجلها أو بسبب اختلاف لهجاتها أو التباين القائم بين فصحاها وعاميتها.
اليوم، وفي هذا العصر، ما الذي نستطيع أن نعتز ونفخر به نحن العرب؟ أين الانجازات والمساهمات التي نقدمها اليوم إلى الانسانية وإلى ركب التقدم والحضارة، ونحن نعيش حالة من التخلف والانهزام والانقسامات؟ اللغة العربية هي الشيء الوحيد الذي نفخر ونعتز به، وبقاء اللغة العربية ونقاؤها ومحافظتنا عليها هو الشيء الوحيد الذي يخفف من وطأة إحساسنا بالمرارة، والفضل في ذلك يعود إلى القرآن الكريم.
وقد أصبحت اللغة العربية اليوم إحدى اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة، وتحتل المركز الرابع أو الخامس من حيث اللغات الأكثر انتشارًا في العالم؛ يتحدثها بها أكثر من 422 مليون نسمة، وهي الرابعة من حيث عدد المستخدمين على الإنترنت، وتعترف بها 27 دولة كلغة رسمية، وهي أغزر اللغات بالمفردات إذ تحتوي على أكثر من 12 مليون كلمة.
وزحفت اللغة العربية، وأصبح لها تأثير واضح في الكثير من اللغات الأخرى، ولأنني أكتب هذه الأسطر، وأنا في بلاد الأندلس فسأتطرق باقتضاب شديد إلى تأثيرها في التراث والتاريخ واللغة الأسبانية، التي تعد ثاني أكثر اللغات استخدامًا في العالم وينطق بها نحو 570 مليون إنسان، وتعد اللغة الاسبانية لغة أساسية لنحو 20 دولة مختلفة في العالم، ويأتي نحو 4000 من كلماتها مباشرة من اللغة العربية بحيث أصبح 8% من اللغة الأسبانية أصلها عربي.
وفي الأندلس أثبتت اللغة العربية قدرتها على الابتكار والتجديد، وعلى استيعاب العلوم وانتاجها ونقل المعارف العلمية والفلسفية إلى أوروبا في عصر النهضة، وباللغة العربية صارت الاندلس منارة للعلم والحضارة، وحفلت بالكثير من رجال الفكر والعلم والأدب، واسهمت بقدر كبير في إثراء الثقافة والفكر العربي، وظلت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة إبان الحكم العربي الاسلامي لبلاد الأندلس الذي دام لنحو 800 عام منذ افتتاحها على يد القائد طارق بن زياد في العام 711م إلى سقوط آخر معاقلها في غرناطة في العام 1492م إبان حكم الأمير أبي عبدالله محمد الثاني عشر المعروف بأبي عبدالله الصغير.
وحيال هذا الحدث الجلل انتفضت اللغة العربية في صورتها الشعرية لتعبر عن حجم المأساة على لسان الأميرة عائشة بنت محمد الأحمر؛ المعروفة بعائشة الحرة لتقول لابنها الأمير المهزوم مقرعة إياه على تضييع ملكه بسبب انغماسه في اللهو:
مثل النسا فلتبك ملكك بعدما… أسلمته بيديك خصمًا مجرما
غرناطة الأمجاد حاضرة الدُّنى… كانت تطاول في علاها الانجما
لم تحمها مثل الرجال وإنما… قد خنتها ورضيت أن تستسلما
فكرت في دنياك وحدك ناسيًا… حق الشعوب لكي تعيش منعما
وقصورك الحمراء قد عبأتها… بالغانيات ومن يجيد ترنما
وشغلت نفسك بالتوافه تاركًا… كل الثغور بدون أن تُستحكما
وغمدت أسياف الجهاد حماقة… وجعلته في العالمين محرما
إلى آخر القصيدة التي خلدت مرارة سقوط غرناطة وضياع الأندلس، وكان أول إجراء اتخذه الاسبان المنتصرون بعد سيطرتهم على كامل اسبانيا منع وتحريم استخدام اللغة العربية ومن يخالف ذلك كان يعذب ويحرق حيا.
وزير العمل البحريني السابق