“فوبيا” الصين

0 67

د.سالم الكتبي

تقاطرت في الآونة الأخيرة التصريحات والمواقف والممارسات التي تقود إلى استنتاج واحد هو أن الصين باتت تمارس الخطر الستراتيجي الذي يواجه الولايات المتحدة.
هذا الحشد المدروس أميركياً بشأن التهديد الصيني يتمحور حول فكرة أن تستعد فعلياً لـ”غزو” تايوان وإعادتها للوطن الأم خلال عامين أو أكثر قليلاً، وأن السيناريوهات جميعها تقود إلى الإستنتاج ذاته.
مجلس النواب الأميركي، الذي زارت رئيسته السابقة نانسي بيلوسي تايوان، وتسببت في رفع منسوب التوتر بين بكين وواشنطن، عقد اخيراً جلسات استماع خاصة بالموضوع، وفي إحداها قال مستشار الأمن القومي السابق، ماكماستر، إن العامين المُقبلين يُمثّلان فترة خطيرة للولايات المتحدة، حيث تبرز احتمالات مُتزايدة بشأن هجوم الصين على تايوان، التي تنظر إليها بكين على أنها جزء من أراضيها، متوقعاً أن تستغل انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية وتنفيذ سيناريو استعادة الجزيرة.
الشواهد تقول إنه منذ صدور البيان الصيني ـ الروسي المشترك، الذي خرج عن قمة شي ـ بوتين عشية أولمبياد بكين، والذي تضمن خطاباً موجهاً للغرب مفاده أنه حان الوقت لعصر جديد بقيادة القطبين الجديدين.
هذا البيان أسهم بدرجة ما في تشكيل التوجه الأميركي نحو روسيا في حربها ضد أوكرانيا، واعتبارها “بروفة” لما سيحدث في تايوان، وأن هزيمة روسيا تمثل “ردعاً” للصين والعكس صحيح من وجهة نظر أصحاب هذا الرأي.
لا شك أن الولايات المتحدة تخطىء حين تحصر الصراع على قيادة النظام العالمي في حرب أوكرانيا أو حتى استعادة تايوان، فالصين ـ بكل عمقها وموروثها الحضاري والتاريخي لن تترك الأمور حتى تجد نفسها تخوض صراعاً صفرياً كهذا، لكن تبقى المعضلة في الاستفزازات الأميركية المتواصلة، التي لا تقتصر على المحيط الجغرافي لتايوان، بل تشمل اتفاقات لبناء قواعد عسكرية جديدة في دول مختلفة بمنطقة جنوب شرق آسيا، و”هندسة” تحالفات جديدة تستهدف في مجملها محاصرة واحتواء الصعود الستراتيجي الصيني المتسارع.
الصين من جانبها لا تمضي وفق المخطط الأميركي المرسوم كما فعلت روسيا، بل تتعامل وفق رؤيتها الذاتية، وتحاول جاهدة الحفاظ على التوازن الهش بين مصالحها الستراتيجية مع طرفي الصراع في أوكرانيا من دون أن تضحي بمبادئها وقناعاتها الذاتية في إدارة العلاقات الدولية.
أحد أهم دوافع ما يمكن تسميته “فوبيا الصين” لدى دوائر صنع القرار الأميركية هو هذا الصعود الصيني القوي في المجالات كافة، اذ تتحرك الصين بهدوء لكن بفاعلية لإعادة تشكيل قواعد النظام العالمي بما يناسب مع رؤيتها، حيث باتت تضع إصلاح المؤسسات العالمية بهدوء ضمن أهدافها الستراتيجية، وتعتمد في ذلك على نفوذها المتزايد في مناطق حيوية مثل القارة الإفريقية التي تمثل كتلة تصويتية أممية تبلغ نحو 28% من إجمالي عدد الأصوات بالجمعية العام للأمم المتحدة.
وقد أعجبني ما قرأته في مقالة مترجمة عن إحدى الصحف الصينية ملخصة ان أولويات الصين الخارجية، أهمها أن العمل ضمن نطاق الدول النامية هو الأساس، وأن المؤسسات الدولية هي مسرح التحرك.
الصراع الأشد بين الصين والولايات المتحدة لا يظهر في المجالين العسكري والديبلوماسي فقط، بل في ميادين وقطاعات حيوية أخرى أشد تأثيراً في ما يتعلق بالنفوذ والهيمنة على العالم، فالصين تطور قدراتها البحثية والمعرفية بشكل هائل، والولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء فقدان سيطرتها المعرفية، وتتوالى تحذيرات الخبراء الغربيين من تفوق الصين المتنامي في مجالات الإبتكار والأبحاث والتقنيات، وقد أشار تقرير صدر اخيراً عن معهد استرالي إلى تفوقها على الولايات المتحدة في 37 من 44 تقنية تمثل رافعات للابتكار والنمو والقوة العسكرية في العقود المقبلة بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الروبوت والتقنيات الحيوية.
الملاحظة الوحيدة تتعلق أن التفوق الصيني لم يترجم تفوقا تكنولوجيا، لكن الصين تتموضع جيداً لتشعل موقعها على هذا الصعيد.
الولايات المتحدة تحركت بسرعة أيضاً لإنقاذ مكانتها المعرفية والتكنولوجية، فقد أقرت العام الماضي قانون “رقائق أشباه الموصلات”، ومساعدات بنحو 52 مليار دولار لإحياء هذا القطاع وأدوات التكنولوجيا المتقدمة، وهو أمر مهم في معركة السيطرة والنفوذ الستراتيجي العالمي، ما يفسر قول الرئيس بايدن إن الدعم المالي بموجب هذا القانون سيساعد “في كسب المنافسة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين”.
اذ رغم أن أشباه الموصلات أُخترعت في الولايات المتحدة، فإن أميركا تنتج نحو12 في المئة فقط من الإمدادات العالمية، مع استيراد نحو 75 في المئة من الإمدادات الأميركية من شرق آسيا.
من المعروف أن أشباه الموصلات تدخل في تشغيل الكثير من أدوات الحروب الحديثة وأسلحتها الفتاكة، وعلى سبيل المثال، يحتوي كل نظام لإطلاق صواريخ “جافلين” الأميريكي، الذي حصلت عليه أوكرانيا، على المئات من الرقائق الإلكترونية، وهو ما يدعو مسؤولي الدفاع الأميركيين إلى القلق بشأن اعتمادهم على دول أخرى في تزويد بلادهم بالرقائق.
معضلة الصراع الستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة أنه يتحول تدريجياً إلى فوبيا لطرف ضد الآخر، وهو ما يغذي فرص المواجهة الخشنة، لاسيما أن واشنطن تتخذ من ملف تايوان ذريعة قوية للجم النفوذ الصيني، وهو أمر تدركه بكين جيداً وتحاول المواءمة بين التمسك بما تعتبره حقها في استعادة سيادتها على الجزيرة من ناحية، والانسياق وراء أي سيناريو قد يستهدف الزج بها في حرب استنزاف قد تنهي طموحها الستراتيجي العالمي من ناحية ثانية.

كاتب اماراتي

You might also like