كيف نقرب المسافة بيننا وبين الآخر؟
د. محمد الدعمي
دار الحديث عن العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في أوروبا دوراناً عجيباً، ثم ما لبث أن تلاشى وكأنه غيمة صيف عابرة.
لا تنطلق أهمية الموضوع من مسببات الشخصيات التي ناقشته، ومنهم رؤساء دول وحكومات ومشكلو رأي عام، إنما من المعاني والدلالات الثقافية التي تفرزها فكرة هذه العلاقات، إذ يوضع الإسلام في جانب، وبقية أديان العالم في جانب آخر.
وإذا كان البعض قد خلُص إلى مسببات متنوعة لتأثير أهمية هذا النقاش الدولي، فإن له أن يتجاوز التكهن بأن أهميته لا تنحسر في أوروبا، إنما تستبق نوعاً من الارتطام الثقافي، زد على ذلك الزعم بأن الموضوع متواشج مع خوف أوروبي آري ومسيحي متنامِِ من تعاظم ظواهر التمرد والعنف التي تبرز بين الجاليات المسلمة التي تعيش في القارة الأوروبية، وهي التي جاءت أصلاً هاربة من الأحوال الصعبة في بلدانها الأصلية.
ورغم أن النقاش يعكس هواجس أوروبية مبررة، وبخاصة بعد أحداث الشغب والتخريب التي نسبت الى بعض أبناء الجاليات المسلمة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، فإن الشعور المتحسس الأوروبي، الشعبي والرسمي، يتعاظم بسبب الهلع من فكرة أن هذه الجاليات يمكن أن تتحول أشبه ما يكون بـ “قنبلة موقوتة” تهدد الغرب، و هو غير قادر على مواجهتها لو انفجرت، من ناحية، كما إنه غير قادر على قذفها إلى الخارج للتخلص من آثارها التدميرية، من الناحية الثانية، الأمر الذي يحيل الموضوع إلى مأزق مؤرق بالنسبة للمجتمعات والحكومات هناك، لاسيما مع ما رافق الأحداث والاحتكاكات من استقطاب عاطفي وثقافي مع رفع شعارات إسلامية.
يجري الحديث عن قضايا ذات صلة، منها: تشجيع علاقات دول الاتحاد الأوروبي بالقيادات الإسلامية “المعتدلة”، وذلك من خلال التركيز على أنشطة الحوار، بديلاً عن وخزات العنف المتنامية بين الشرق والغرب، خارج أوروبا وداخلها، ولكي يبدو الخطاب الأوروبي متوازناً يتحلى بـ”القيم” الأوروبية الإنسانية العتيقة، تحدث مسؤول بارز عن “المسلمين الأوربيين” بوصفهم أقلية تطالب بـ”المكانة” التي تستحقها في تلك المجتمعات. لنلاحظ هنا النبرة المتعالية التي تمسح بتسطيح ثقافات العالم غير الأوروبي على نحو لا يخلو من الدونية تبلورت في افتراض خطاب “اليد العليا” لنفسه كي يحض، ليس الشعوب الإسلامية فقط، إنما كذلك أولو الأمر في قادة هذه الشعوب على نبذ الإرهاب ،والاتحاد في جبهة واحدة ضد الجماعات الراديكالية، وكأنهم المسؤولون عنها.
لم يخلُ هذا الخطاب الذي تواصل لمدة طويلة من البعد الفكري-الفلسفي المعمق، اذ برزت الدعوة الغربية للمسلمين والعرب من أجل التخلص مما سمي”الأحكام المسبقة” والأفكار”المنمطة” المتوارثة بين الثقافات عبر تطورها التاريخي وصلت الى درجة استقطابها أبعاداً سياسية قسرية هذه الأيام بسبب تنامي الحركات الجذرية.
يتطلب هذا الموضوع بعض التريث والأناة، ذلك أن مشكلة المتوارث داخل الثقافات من أنماط تفكير جاهزة، أو مفاهيم خاطئة، أوتمثيلات مشوهة، إنما هو أصلاً ليس من سجايا المسلمين عبر تاريخ العلاقات بين الشرق، العربي الإسلامي من ناحية، والغرب الأوروبي، من الناحية الثانية.
وقد جاء استذكار أوروبا لحصار العثمانيين لفيينا بعد احتلال العاصمة الثانية للإمبراطورية النمسوية، بودابست قبل قرون ذريعةً لرفض ضم الدولة التركية الحديثة للمجتمع الأوروبي، وقد جاء هذا الارتجاع للماضي العدائي المشوب بالضغائن الطائفية دليلاً على أن أوروبا بعامة لم تتمكن من تنقية ذاتها من مثل هذه الترسبات الخطيرة، علماً ان هذا الإخفاق في تنقية الذات هو الذي خدم “مولداً” عالي الكفاءة يساعد الحركات المتطرفة على تغذية العدائية بعيداً عن الحوار، وعلى تكريس التنائي بديلاً عن التداني، وبعكسه كيف يمكن تفسير أنواع العوائق والعراقيل الفنية التي يبتكرها (كما يبدو) خبراء ضالعون على سبيل إعاقة تركيا من الانضمام إلى المجمتع الأوروبي، بعد أن كان الانضمام يجري بالجملة إثر انهيار الكتلة الاشتراكية لدول كانت حتى وقت قصير شيوعية، ومرفوضة رفضاً باتاً من حكومات أوروبا الغربية العجوز، كما أسماها سياسي أميركي، تهكماً وربما تعسفاً.
مجرد فكرة إقامة مؤتمر يضع الإسلام في معسكر وبقية الأديان الكبرى في معسكر معاكس، إنما تنطوي على شيء من الحجز والحجر لهذا الدين، وكأنه يقف مُداناً في قفص الاتهام أمام قضاة من أديان أخرى.
هذه معادلة لا تبدو واضحة العدالة والتوازن، وبخاصة عندما يؤخذ هذا الدين الحنيف، عقائداً ونظاماً اجتماعياً مجرباً، بجريرة خلايا وأفراد لم يتمكنوا من إدراك القيم السامية والسلمية للإسلام.
مثل هذا الخلط للأوراق الذي يبدو شائعاً أوروبيا هو ما يُقلق رجال الثقافة الإسلامية الحقة، لأنه يقود إلى سيادة القيم المشوهة على القيم الأصلية والأصيلة، كتمثيل لدين عظيم لم يعرف عنه، عبر التاريخ، سوى التسامح والتعايش مع الأديان الأخرى، ابتداءً من عصر الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين (رض)، وانتهاء بالتفتح الإسلامي العظيم الذي عبّر عنه أساطين النهضة العربية-الإسلامية في العصر الحديث، ومنهم رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، زيادة على هؤلاء الرجال الذين كانوا مسؤولين عن البناء الحديث للدول الإسلامية حديثة الاستقلال السياسي والاقتصادي.
لذا يكون تعميم قيم الراديكالية العدائية وربطها بدين متسامح ومتعايش مع الثقافات الأخرى في جوهره نوعاً من أنواع الخرق للحقيقة التاريخية، خصوصا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية حيث أسهم النصارى واليهود، وسواهم من أتباع الديانات الأخرى، في بناء ذلك الصرح الثقافي والحضاري الكبير حتى صارت حضارتنا أنموذجا فريدا للثقافات المتعددة، كما هي عليه حال الغرب اليوم.
لذا فإن الحديث عن إسلامين،أصولي ومعتدل، وليس إسلاما واحدا، إنما هو حديث لا تاريخي ولا واقعي، لأنه ينطوي على شرذمة هذا الدين الحنيف الذي بقي يرفد الحضارات بالكثير من الذي يمكن أن يقارن بما قدمته الحضارات التاريخية العظيمة الأخرى، ومنها الحضارة الأوروبية.
كاتب وباحث أكاديمي عراقي